فلما أصبح الصباح خرج الملك من حجابه وأذن للناس في الدخول عليه وصار يعتذر إليهم ووعدهم أن يصنع لهم ما يحبون فرضوا بذلك وانصرفوا وسار كل واحدٍ إلى منزله ثم أن بعض نساء الملك وكانت أحبهن إليه وأكرمهن عنده قد دخلت عليه فرأته متغير اللون متفكراً في أموره بسبب ما سمعه من كبير وزرائه فقالت: ما لي أراك أيها الملك قلق النفس هل تشتكي شيئاً? فقال لها: لا إنما استغرقتني اللذات عن شؤوني فما لي ولهذه الغفلة عن أحوالي وعن أحوال رعيتي وإن استمريت على ذلك فعن قليلٍ يخرج ملكي من يدي، فأجابته قائلةً: إني أراك أيها الملك مع عمالك ووزرائك مغشوشاً فإنما يريدون نكايتك وكيدك حتى لا تحصل لك من ملكك هذه اللذة ولا تغنم نعيماً ولا راحةً بل يريدون أن تقضي عمرك في دفاع المشقة عنهم حتى أن عمرك يفنى بالنصب والتعب وتكون مثل الذي قتل نفسه لإصلاح غيره أو تكون مثل الفتى واللصوص، فقال الملك: وكيف كان ذلك? فقالت: ذكروا أن سبعةً من اللصوص خرجوا ذات يوم يسرقون على عادتهم فمروا على بستان فيه جوز رطب فدخلوا ذلك البستان وإذا هم بولدٍ صغيرٍ واقف بينهم فقالوا: يا فتى هل لك أن تدخل معنا هذا البستان وتطلع هذه الشجرة وتأكل من جوزها كفايتك وترمي لنا منها جوزاً? فأجابهم الفتى إلى ذلك ودخل معهم.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة عشرة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الفتى لما أجاب اللصوص ودخل معهم قال بعضهم لبعض: انظروا إلى أخينا وأصغرنا فاصعدوه فقالوا: ما نرى فينا ألطف من هذا الفتى. فلما أصعده قالوا: يا فتى لا تلمس من الشجرة شيئاً لئلا يراك أخوك فيؤذيك فقال الفتى: وكيف أفعل? فقالوا له أقعد في وسطها وحرك كل غصنٍ منها تحريكاً قوياً حتى يتناثر ما فيه فنلتقطه وإذا فرغ ما فيها ونزلت إلينا فخذ نصيبك مما التقطناه، فلما صعد الفتى على الشجرة صار يحرك كل غصن وحده أتجوز يتناثر منه واللصوص يجمعونه.فبينما هم كذلك وإذا بصاحب الشجرة واقف عندهم وهم على ذلك الحال فقال لهم: ما لكم ولهذه الشجرة? فقالوا له: لم نأخذ منها شيئاً، غير أننا مررنا بها فرأينا هذا الفتى فوقها فاعتقدنا أنه صاحبها فطلبنا منه أن يطعمنا منها فهز بعض الأغصان حتى انتثر منها أتجوز ونحن ما لنا ذنبٌ، فقال صاحب الشجرة للغلام: فما تقول أنت? فقال: كذب هؤلاء ولكن أنا أقول لك الحق وهو أننا أتينا جميعاً إلى هنا فأمروني بالصعود على هذه الشجرة لأهز الأغصان كي ينتثر أتجوز عليهم فامتثلت أمرهم فقال له صاحب الشجرة: لقد ألقيت نفسك في بلاءٍ عظيمٍ وهل انتفعت بأكل شيءٍ منها? فقال الغلام: ما أكلت منها شيئاً. فقال له صاحب الشجرة: لقد علمت الآن حماقتك وجهلك وهو أنك سعيت في تلف نفسك لإصلاح غيرك ثم قال اللصوص: ما لي عليكم سبيل أمضوا إلى سبيلكم وقبض على الولد وعاقبه وهكذا وزراؤك وأهل دولتك يريدون أن يهلكوك لإصلاح أمرهم ويفعلوا بك مثل ما فعل اللصوص بالفتى فقال الملك: حقاً ما قلتيه ولقد صدقت في خبرك فأنا لا أخرج إليهم ولا أترك لذاتي، ثم بات مع زوجته في أرغد عيش إلى أن أصبح الصباح فقام الوزير وجمع أرباب الدولة مع من حضر معهم من الرعية ثم جاؤوا إلى باب الملك مستبشرين فرحين فلم يفتح لهم الباب ولم يخرج إليهم ولم يأذن لهم بالدخول عليه.
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 871
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 872
فلما يئسوا من ذلك قالوا لشماس: أيها الوزير الفاضل والحكيم الكامل أما ترى حال هذا الصبي الصغير السن القليل العقل، الذي قد جمع إلى ذنوبه الكذب فانظر وعده لك كيف أخلفه ولم يوف بما وعده وهذا ذنبٌ يجب أن نضيفه إلى ذنوبه ولكن نرجو أن تدخل إليه ثانياً وتنظر ما السبب في تأخيره ومنعه عن الخروج فإنا غير منكرين على طباعه الذميمة مثل هذا الأمر فإنه بلغ غاية القساوة ثم أن شماس توجه إليه ودخل عليه وقال: السلام عليك أيها الملك ما لي أراك قد أقبلت على شيءٍ يسير من اللذة وتركت الأمر الكبير الذي ينبغي الاعتناء به وكنت مثل الذي له ناقةٌ وهو منطو أعلى لبنها فألهاه حسن لبنها عن زمامها فأقبل يوماً على حلبها ولم يعتن بزمامها، فلما أحست الناقة بترك الزمام جذبت نفسها وطلبت الفضاء فصار الرجل فاقد اللبن والناقة مع أن ضرر ما لقيه أكثر من نفعه فانظر أيها الملك فيما فيه صلاح نفسك ورعيتك فأنه ليس ينبغي للرجل أن يديم الجلوس على باب المطبخ من أجل حاجته إلى الطعام ولا ينبغي له أن يكثر الجلوس مع النساء من أجل ميله إليهن وكما أن الرجل يبتغي من الطعام ما يدفع ألم الجوع ومن الشراب ما يدفع ألم العطش كذلك ينبغي للرجل العاقل أن يكتفي من هذه الأربعة والعشرين ساعةً بساعتين للنساء في كل نهار ويصرف الباقي في مصالح نفسه وفي مصالح رعيته ولا يطيل المكث مع النساء ولا الخلوة بهن أكثر من ساعتين فأن ذلك فيه مضرةٌ لنقله وبدنه لأنهن لا يأمرن بخيرٍ ولا يرشدن إليه ولا ينبغي أن يقبل منهن قولاً ولا فعلاً وقد بلغني أن أناساً كثيرةً هلكوا بسبب نسائهم فمنهم رجل هلك من اجتماعه بزوجته لكونه أطاعها فيما أمرته.فقال الملك: وكيف كان ذلك? قال شماس: زعموا أن رجلاً كان له زوجة وكان يحبها وكانت مكرمةً عنده فكان يسمع قولها ويعمل برأيها وكان له بستان غرسه بيده جديداً فكان يأتي إليه كل يومٍ ليصلحه ويسقيه، فقالت له زوجته يوماً من الأيام: أي شيءٍ غرست في بستانك? فقال لها: كل ما تحبينه وتريدينه وها أنا مجتهد في إصلاحه وسقيه فقالت له: هل لك أن تأخذني وتفرجني فيه حتى أراه وأدعوا لك دعوةً صالحةً فإن دعائي مستجاب? فقال: نعم أمهليني حتى آتي إليك في غدٍ وأخذك فلما أصبح الرجل أخذ زوجته معه وتوجه بها إلى البستان ودخلا فيه وفي حال دخولهما نظر إليهما اثنان من الشبان على بعدٍ فقال بعضهما لبعضٍ: إن هذا الرجل زانٍ وإن هذه المرأة زانية وما دخلا هذا البستان إلا ليزنيا فيه فتبعاهما لينظرا ما يكون من أمرهما فأما الشابان فإنهما وقفا على جانب البستان وأما الرجل وزوجته فأنهما لما دخلا البستان واستقرا فيه قال الرجل لزوجته: ادعي لي الدعوى التي وعدتني بها فقالت: لا ادعو لك حتى تقوم بحاجتي التي تبتغيها النساء من الرجال فقال لها: ويحك أيتها المرأة أما كان مني في البيت كفايةً وههنا أخاف على نفسي من الفضيحة وربما أشغلتني عن مصالحي أما تخافين أن يرانا أحدٌ? فقالت: فلا نبال من ذلك لأننا لم نرتكب فاحشةً ولا حراماً وأما سقي هذا البستان ففيه مهلة وأنت قادرٌ على سقيه في أي وقت أردت ولم تقبل منه عذراً ولا حجة وألحت عليه في طلب النكاح فعند ذلك قام ونام معها فعندما أبصراهما الشابان المذكوران وثبا عليهما وأمسكاهما وقالا لهما: لا نطلقكما لأنكما من الزناة وإن لم نواقع المرأة نرفع أمرنا إلى الحاكم. فقال لهما: ويحكما إن هذه زوجتي وأنا صاحب البستان. فما سمعا له كلاماً بل نهضا على المرأة فعند ذلك صاحت واستغاثت بزوجها قائلةً له: لا تدع الرجال يفضحونني، فأقبل نحوهما وهو يستغيث، فرجع إليه واحدٌ منهما وضربه بخنجره فقتله وأتيا المرأة وفضحاها.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة عشرة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاب لما قتل زوج المرأة رجع الشابان إلى المرأة وفضحاها وإنما قلنا لك هذا أيها الملك لتعلم أنه ليس ينبغي للرجل أن يسمع من المرأة كلاماً ولا يطيعها في أمرٍ ولا يقبل لها رأياً في مشور وإياك أن تلبس ثوب الجهل بعد ثوب الحكمة والعلم أو تتبع الرأي الفاسد بعد معرفتك للرأي الرشيد النافع فلا تتبع لذةً يسيرة مصيرها إلى الفساد ومآلها إلى الخسران الزائد الشديد.
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 872
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 873
فلما سمع الملك ذلك من شماس قال له: ثاني غدٍ أخرج إليهم إن شاء الله تعالى فخرج شماس إلى الحاضرين من كبراء المملكة وأعلمهم بما قال الملك، فبلغ المرأة ما قاله شماس فدخلت على الملك وقالت له إنما الرعية عبيد للملك والآن رأيت أنك أيها الملك عبدٌ لرعيتك بحيث تهاجم وتخاف شرهم وهم إنما يريدون أن يختبروا باطنك فإن وجدوك ضعيفاً تهاونوا بك وإن وجدوك شجاعاً هابوك وكذلك يفعل وزراء السوء بملكهم، لأن حيلهم كثيرةٌ وقد أوضحت لك حقيقة كيدهم فإن وافقتهم على ما يريدون أخرجوك من أمرك إلى مرادهم ولم يزالوا ينقلونك من أمرٍ إلى أمرٍ حتى يوقعك في الهلكة ويكون مثلك مثل التاجر واللصوص. فقال الملك: وكيف كان ذلك قالت: بلغني أنه كان تاجرٌ له مالٌ كثيرٌ فانطلق بتجارة ليبيعها في بعض المدن.فلما انتهى إلى المدينة اكترى له منزلاً ونزل فيه فنظره لصوصٌ كانوا يراقبون التجار لسرقة متاعهم فانطلقوا إلى منزل ذلك التاجر واحتالوا في الدخول عليه فلم يجدوا لهم سبيلاً إلى ذلك فقال لهم رئيسهم أنا أكفيكم أمره، ثم أنه انطلق فلبس ثياب الأطباء وجعل على عاتقه جراباً فيه شيء من الدواء وأقبل ينادي من يحتاج إلى طبيب حتى وصل إلى منزل ذلك التاجر فرآه جالساً على غداءه فقال له: أتريد لك طبيباً? فقال: لست محتاجاً إلى الطبيب، ولكن أقعد وكل معي فقعد اللص مقابله وجعل يأكل معه وكان ذلك التاجر جيد الأكل.فقال اللص في نفسه: لقد وجدت فرصتي. ثم التفت إلى التاجر وقال له: لقد وجب علي نصيحتك لما حصل لي من إحسانك وليس يمكن أن أخفي عليك نصيحةً، وهو أني أراك رجلاً كثير الأكل وهذا سببه مرض في معدتك فإن لم تبادر بالسعي على دوائك وإلا آل أمرك إلى الهلاك فقال التاجر أن جسمي صحيح ومعدتي سريعة الهضم وأن كنت جيد الأكل فليس ببدني مرضٌ ولله الحمد والشكر فقال له اللص إنما ذلك بحسب ما يظهر لك وإلا فقد عرفت أن في باطنك مرضاً خفياً فأن أنت أطعتني فداوي نفسك فقال التاجر وأين أجد من يعرف دوائي فقال له اللص إنما المداوي هو الله ولكن الطبيب مثلي يعالج المريض على قدر إمكانه.فقال له التاجر أرني الآن دوائي وأعطني منه شيئاً فأعطاه سفوفاً فيه صبرٌ كثيرٌ وقال له استعمل هذا في هذه الليلة فأخذه منه ولما كان الليل تعاطى منه شيء فرآه صبراً كريه الطعم فلم ينكر منه شيء فلما تعاطاه وجد منه خفةً في تلك الليلة فلما كانت الليلة الثانية جاء اللص ومعه دواءٌ صبراً أكثر من الأول فأعطاه منه شيء فلما تعاطاه أسهله تلك الليلة ولكنه صبر على ذلك ولم ينكره فلما رأى اللص أن التاجر اعتني بقوله واستأمنه على نفسه وتحقق أنه لا يخالفه انطلق وجاء بدواءٍ قاتلٍ وأعطاه له فأخذه منه التاجر وشربه فعندما شرب ذلك الدواء نزل ما كان في بطنه وتقطعت أمعاؤه وأصبح ميتاً فقام اللصوص وأخذوا جميع ما كان للتاجر وأني أيها الملك ما قلت لك هذا إلا لأجل أنك لا تقبل من هذا المخادع كلاماً فيلحقك أموراً تهلك بها نفسك فقال الملك صدقت فأنا لا أخرج إليهم.فلما أصبح الصباح اجتمع الناس وجاؤوا إلى باب الملك وقعدوا أكثر النهار حتى يئسوا من خروجه، ثم رجعوا إلى شماس وقالوا له أيها الفيلسوف الحكيم الماهر أما ترى هذا الولد الجاهل لا يزداد إلا كذباً علينا وإن خراج الملك من يده واستبدال غيره به فيه الصواب فتنتظم بذلك أحوالنا وتستقيم أمورنا ولكن ادخل إليه ثالثاً واعلمه أنه لا يمنعنا من القيام عليه ونزع الملك منه إلا الإحسان والده إلينا وما أخذه علينا من العهود والمواثيق ونحن مجتمعون في غدٍ عن آخرنا بسلاحنا ونهدم باب هذا الحصن فأن خرج إلينا وصنع لنا ما نحب فلا بأس وإلا دخلنا عليه وقتلناه وجعلنا الملك في يد غيره.
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 873
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 874
فانطلق الوزير شماس ودخل على الملك وقال له: أيها الملك المنهمك في شهواته ولهوه ما هذا الذي تصنعه بنفسك فيا هل ترى يغريك على هذا فأن كنت أنت الجاني على نفسك فقد زال ما نعهده لك من الصلاحية والحكمة والفصاحة فليت شعري من الذي حولك ونقلك من العلم إلى الجهل ومن الوفاء إلى الجفاء ومن اللين إلى القسوة ومن قبولك مني إلى إعراضك عني فكيف نصحتك ثلاث مراتٍ ولم تقبل نصيحتي وأشير عليك بالصواب وتخالف مشورتي، فأخبرني ما هذه الغفلة وما هذا اللهو ومن أغراك عليه اعلم أن أهل مملكتك قد تواعدوا على أنهم يدخلون عليك ويقتلونك ويعطون ملكك لغيرك.فهل لك قوةٌ على جميعهم والنجاة من أيديهم أو تقدر على حياة نفسك بعد قتلها فأن كنت أعطيت هذا كله آمنت من قبلهم فلا حاجة لك بكلامي وإن كان حاجتك إلى الدنيا والملك، فأفق لنفسك واضبط ملكك وأظهر للناس قوة بأسك وأعلمهم بأعذارك فإنهم يريدون انتزاع ما في يدك وتسلميه إلى غيرك وقد عزموا على العصيان والمخالفة وصار دليل ذلك ما يلمونه من صغر سنك ومن انكبابك على اللهو والشهوات فأن الحجارة إذا طار مكثها في الماء متى أخرجت منه وضربت بعضها بعضاً تقدمت منها النار والآن رعيتك خلقٌ كثيرون يتوازرون عليك ويريدون نقل الملك منك إلى غيرك ويبلغون فيك ما يريدون من هلاكك ويكون مثلك مثل الثعلب والذئب، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة عشرة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير شماساً قال للملك ويبلغون فيك ما يريدون من هلاكك ويكون مثلك مثل الثعلب والذئب فقال الملك وكيف كان ذلك قال زعموا أن جماعةً من الثعالب خرجوا ذات يوم يطلبون ما يأكلون فبينما هم يجولون في طلب ذلك وإذا هم بجملٍ ميت فقالوا في أنفسهم قد وجدنا ما نعيش به زمناً طويلاً ولكن نخاف أن يبغي بعضناً على بعض ويميل القوي بقوته على الضعيف فيهلك الضعيف منا فينبغي لنا أن نطلب حكماً يحكم بيننا ونجعل له نصيباً فلا يكون للقوي سلاطة على الضعيف.فبينما هم يتشاورون في شأن ذلك وإذا بذئبٍ أقبل عليهم فقال بعضهم لبعضٍ أن أصاب رأيكم فاجعلوا هذا الذئب حكماً بيننا، لأنه أقوى الناس وأبوه سابقاً كان سلطاناً علينا ونحن نرجوا من الله أن يعدل بيننا ثم أنهم توجهوا إليه وأخبروه بما صار إليه رأيهم وقالوا لقد حكمناك بيننا لأجل أن تعطى لكل واحدٍ منا ما يقوته في كل يومٍ على قدر حاجته لئلا يبغي قوينا على ضعيفنا فيهلك بعضنا بعضاً فأجابهم الذئب إلى قولهم وتعاطي أمورهم وقسم عليهم في ذلك اليوم ما كفاهم.فلما كان من الغد قال الذئب في نفسه إن قسمة هذا الجمل بين هؤلاء العاجزين لا يعود علي شيءٍ منها إلا الجزء الذي جعلوه لي وأن أكلته وحدي فهم لا يستطيعون لي ضراً مع أنه غنم لي ولأهل بيتي فمن الذي يمنعني عن أخذ هذا لنفسي ولعل الله مسببه لي بغير جميلة فالأحسن لي أن أختص به دونهم ومن هذا الوقت لا أعطيهم شيء فلما أصبح الثعالب جاؤوا إليه على العادة يطلبون منه قوتهم فقالوا له يا أبا سرحان أعطنا مؤنة يومنا.فأجابهم قائلاً ما بقي عندي شيءٌ أعطيه لكم فذهبوا من عنده على أسوأ حال ثم قالوا إن الله أوقعنا في همٍ عظيم مع هذا الخائن الخبيث الذي لا يتقي الله ولا يخافه وليس لنا حولٌ ولا قوةٌ ثم قال بعضهم لبعضٍ إنما حمله على هذا الأمر ضرورة الجوع فدعوه اليوم يأكل حتى يشبع وفي غدٍ نذهب إليه، فلما أصبحوا توجهوا إليه وقالوا له يا أبا سرحان إنما وليناك علينا لأجل أن تدفع لكل واحدٍ منا قوته وتنصف لضعيفٍ من القوي وإذا فرغ تجتهد لنا في تحصيل غيره ونصير دائماً تحت كنفك ورعايتك وقد مسنا الجوع ولنا يومان ما أكلنا فأعطنا مؤنتنا وأنت في حلٍ من جميع ما تتصرف فيه من دون ذلك فلم يرد عليهم جواباً بل ازداد قسوةً فراجعوه فلم يرجع.
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 874
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 875
فقال بعضهم لبعضٍ ليس لنا حيلةٌ إلا أننا ننطلق إلى الأسد ونرمي أنفسنا عليه ونجعل له الجمل فإن أحسن لنا بشيءٍ منه كان من فضله وإلا فهو أحق به من هذا الخبيث ثم انطلقوا إلى الأسد وأخبروه بما حصل لهم مع الذئب، ثم قالوا له: نحن عبيدك وقد جئناك مستجيرين بك لتخلصنا من هذا الذئب ونصير لك عبيداً فلما سمع الأسد كلام الثعالب أخذته الحمية وغار الله تعالى ومضى معهم إلى الذئب فلما رأى الأسد مقبلاً طلب الفرار من قدامه فجرى الأسد خلفه وقبض عليه ومزقه قطعاً ومكن الثعالب من فريستهم فمن هذا عرفنا أنه لا ينبغي لأحد من الملوك أن يتهاون في أمر رعيته فأقبل نصيحتي وصدق القول الذي قلته لك وأعلم أن أباك قبل وفاته قد أوصاك بقبول النصيحة وهذا آخر كلامي معك والسلام.فقال الملك إني سامعٌ منك وفي غد أن شاء الله تعالى أطلع إليهم فخرج شماس من عنده وأخبرهم بأن الملك قبل نصيحته ووعده في غدٍ أنه يخرج إليهم فلما سمعت زوجة الملك ذلك الكلام منقولاً عن شماس، وتحققت أنه لا بد من خروج الملك إلى الرعية أقبلت على الملك مسرعةً وقالت له ما أكثر تعجبي من إذعانك وطاعتك لعبيدك أما تعلم أن وزراءك هؤلاء عبيدٌ لك، فلأي شيءٍ رفعتهم هذه الرفعة العظيمة حتى أوهمتهم أنهم هم الذين أعطوك هذا الملك ورفعوك هذه الرفعة وإنهم أعطوك العطايا مع أنهم لا يقدرون أن يفعلوا معك أدنى مكروه فكان من حقك عدم الخضوع لهم بل من حقهم الخضوع لك وتنفيذ أمورك فكيف تكون مرعوباً منهم هذا الرعب العظيم وقد قيل إذا لم يكن قلبك مثل الحديد لا تصلح أن تكون ملكاً، وهؤلاء غرهم حلمك حتى تجاسروا عليك ونبذوا طاعتك مع أنه ينبغي أن يكونوا مقهورين على طاعتك مجبورين على الإنقياد إليك فإن أنت سارعت لقبول كلامهم وأهملتهم على ما هم فيه وقضيت لهم أدنى حاجة على غير مرادك ثقلوا عليك وطمعوا فيك وتصير لهم هذه عادةٌ فأن أطعتني ألا ترفع لأحد منهم شأناً ولا تقبل لأحد منهم كلاماً ولا تطمعهم في التجاسر عليك فتصير مثل الراعي.فقال لها الملك وكيف كان ذلك قالت زعموا أنه كان رجلٌ راعي غنم وكان محافظاً على رعايتها فأتاه لص ذات ليلة يريد أن يسرق من غنمه شيء فرآه محافظاً عليها لا ينام ليلاً ولا يغفل نهاراً فصار يحاوله طول ليله فلم يظفر منه بشيءٍ فلما أعيته الحيلة انطلق إلى البرية واصطاد أسداً وسلخ جلده وحشاه تبنا، ثم أتى به ونصبه على محلٍ عالٍ في البرية بحيث يراه الراعي ويتحققه ثم أقبل اللص على الراعي وقال له إن هذا الأسد قد أرسلني إليك يطلب عشاه من هذه الغنم فقال له الراعي وأين الأسد فقال له اللص أرفع بصرك ها هو واقفٌ فرفع الراعي رأسه فرأى صورة الأسد فلما رآها ظن أنها أسدٌ حقيقيةٌ ففزع منها فزعاً شديداً.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة عشرة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قالت له أن الراعي لما رأى صورة الأسد ظن أنها أسدٌ حقيقي ففزع منها فزعاً شديداً وأخذه الرعب وقال للص يا أخي خذ ما شئت ليس عندي مخالفة وأخذ اللص من الغنم حاجته وازداد طمعه في الراعي بسبب شدة خوفه فصار كل قليل يأتي إليه ويرعبه ويقول له إن الأسد يحتاج إلى كذا أو قصده أن يفعل كذا ثم يأخذ من الغنم كفايته ولم يزل اللص مع الراعي على هذه الحالة حتى أفنى غالب الغنم وإنما قلت لك هذا الكلام أيها الملك لئلا يغتر كبراء دولتك هؤلاء بحلمك ولين جانبك فيطمعوا فيك والرأي السديد أن يكون موتهم أقرب مما يفعلونه.فقبل الملك قولها وقال أني قبلت منك هذه النصيحة ولست مطيعاً لمشورتهم ولا خارجاً إليهم فلما أصبح الصباح اجتمع الوزراء وأكابر الدولة ووجهاء الناس وحمل كل واحدٍ منهم سلاحه معه وتوجهوا إلى بيت الملك ليهجموا عليه ويقتلوه ويولوا غيره فلما وصلوا إلى بيت الملك ليهجموا عليه ويقتلوه ويولوا غيره تقربوا قليلاً من المنزل وسألوا البواب أن يفتح لهم فلم يفتح لهم فأرسلوا ليحضروا نار فيحرقوا بها الأبواب ثم يدخلوا فسمع البواب منهم هذا أن الكلام فانطلق بسرعةٍ وأعلم الملك أن الخلق مجتمعون على الباب وقال أنهم سألوني أن أفتح لهم فأبيت فأرسلوا ليحضروا نار فيحرقوا بها الأبواب ثم يدخلوا عليك ويقتلوك فماذا تأمرني.
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 875
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 876
فقال الملك في نفسه إني وقعت في الهلكة العظيمة ثم أرسل خلف المرأة فحضرت فقال لها أن شماساً لم يخبرني بشيءٍ إلا وقد وجدته صحيحاً وقد حضر الخاص والعام من الناس يريدون قتلي وقتلك ولما لم يفتح لهم البواب أرسلوا ليحضروا نار فيحرقون الأبواب فيحترق البيت ونحن داخله فماذا تشيرون علينا فقالت له المرأة: لا بأس عليك ولا يهولنك أمرهم، فأن هذا الزمان يقوم فيه السفهاء على ملوكهم.فقال لها الملك فما تشيرين علي به لأفعله وما الحيلة في هذا الأمر فقالت له الرأي عندك أنك تعصب رأسك بعصابةٍ وتظهر أنك مريض ثم ترسل إلى الوزير شماس فيحضر إليك ويرى حالك الذي أنت فيه فإذا حضر فقل له قد أردت الخروج إلى الناس في هذا اليوم فمنعني هذا المرض فأخرج إلى الناس وأخبرهم بما أنا فيه وأخبرهم أني في غدٍ أخرج إليهم وأقضي حوائجهم وانظر في أحوالهم ليطمئنوا ويسكن غيظهم وإذا أصبحت فاستدع بعشرة من عبيد أبيك ويكونون سامعين لقولك طائعين لأمرك كاتمين لسرك حافظين لودك ثم أوقفهم على رأسك وأمرهم أن لا يمكنوا أحداً من الدخول عليك إلا واحدٍ بعد واحدٍ فإذا دخل واحدٌ فقل لهم خذوه واقتلوه وإذا اتفقوا معك على ذلك فأصبح ناصباً كرسيك في ديوانك وأفتح بابك إذا رأوك فتحت الباب طابت نفوسهم وأتوك بقلبٍ سليم واستأذنوا في الدخول عليك فائذن لهم في الدخول واحداً بعد واحدٍ كما قلت لك وافعل بهم مرادك ولكن ينبغي أن تبدأ بقتل شماس الكبير أولهم فإنه هو الوزير الأعظم وهو صاحب الأمر فأقتله أولاً.ثم بعد ذلك أقتل الجميع واحداً بعد واحدٍ ولا تبق منهم من تعرف أنه ينكث لك عهداً وكذلك كل من تخاف صولته فإنك إذا فعلت بهم ذلك لا يبقى لهم قوة عليك وتستريح منهم الراحة الكلية ويصفو لك الملك وتعمل ما تحب واعلم أنه لا حيلة لك أنفع من هذه الحيلة فقال لها الملك: إن رأيك هذا سديدٌ وأمرك رشيدٌ فلا بد أن أعمل ما ذكرت ثم أمر بعصابة فشد بها رأسه وتضاعف وأرسل إلى شماس فلما حضر بين يديه قال له شماس: قد علمت أني لك ولرأيك مطيعٌ وأنت كالأخ والوالد دون كل أحد وتعرف أني أقبل منك جميع ما أمرتني به وقد كنت أمرتني بالخروج إلى الرعية والجلوس لأحكامهم وتحققت أنها نصيحة منك لي، وقد أردت الخروج إليهم بالأمس فعرض لي هذا المرض ولست أستطيع الجلوس، وقد بلغني أن أهل المملكة متنغصون من عدم خروجي إليهم وهموا أن يفعلوا في ما لا يليق من شرهم فأنهم غير عالمين بما أنا فيه من المرض فأخرج إليهم وأعلمهم بحالي وما أنا فيه واعتذر إليهم عني فأني تابع لما يقولون وفاعل ما يحبون فصلح لهم هذا الأمر واضمن لهم عني ذلك فأنك نصيح لي ولوالدي من قبلي وعادتك الإصلاح بين الناس وإن شاء الله تعالى في غد أخرج إليهم وفعل مرضي يزول عني في هذه الليلة ببركة صالح نيتي وما أضمرته لهم من الخير في سريرتي فسجد شماس لله ودعا للملك وقبل يديه ورجليه وفرح بذلك وخرج إلى الناس وأخبرهم بما سمعه من الملك ونهاهم عما أرادوه، وأعلمهم بالعذر وسبب امتناع الملك عن الخروج وأخبرهم أنه وعده في غد بالخروج إليهم وأنه يصنع لهم ما يحبون فانصرفوا عند ذلك إلى منازلهم.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة عشرة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شماساً خرج إلى الدولة وقال لهم: إن الملك في غدٍ يخرج إليكم ويصنع لكم ما تحبون فانصرفوا إلى منازلهم هذا ما كان من أمرهم.وأما ما كان من أمر الملك فإنه بعث إلى العشرة عبيد الجبابرة الذين اختارهم من جبابرة أبيه وكانوا ذوي عزمٍ جليدٍ وبأسٍ شديدٍ وقال لهم: قد علمتم ما كان لكم عند والدي من الحظوة ورفعة الشأن والإحسان إليكم مع لطفه بكم وإكرامه إياكم فأنا أنزلهم بعده عندي في درجة أرفع من تلك الدرجة وسأعرفكم سبب ذلك وأنتم في أمان الله مني ولكن أسألكم عن مسألة هل تكونون معي فيها طائعين لأمري فيما أقوله كاتمين لسري عن جميع الناس ولكم مني الإحسان فوق ما تريدون حيث مثلتم أمري فأجابه العشرة من فم واحدٍ وكلامٍ متواردٍ قائلين: جميع ما تأمرنا به يا سيدنا نحن به عاملون ولا نخرج عما تشير به علينا مطلقاً وأنت لي أمرنا.
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 876
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 877
فقال لهم: أحسن الله لكم فأنا الآن أعرفكم سبب اختصاصكم بمزيد الإكرام عندي أنكم قد علمتم ما كان يفعله أبي بأهل مملكته من الإكرام وما عاهدهم عليه من أمري وإقرارهم له بأنهم لا ينكثون لي عهداً أو لا يخالفون لي أمر وقد نظرتم ما كان منهم بالأمس حي اجتمعوا جميعاً حولي يريدون قتلي وأنا أريد أن أصنع بهم أمراً وذلك أني نظرت ما كان منهم بالأمس فرأيت أنه لا يزجرهم عن مثله إلا نكالهم فلا بد أن أوكلكم بقتل من أشير لكم بقتله سراً حتى أدفع الشر والبلاء عن بلادي بقتل أكابرهم ورؤسائهم وطريقة ذلك أني أقعد في هذا المقعد في هذه المقصورة في غدٍ وآذن لهم بالدخول علي واحداً بعد واحدٍ وإن يدخلوا من بابٍ ويخرجوا من بابٍ آخر فقفوا أنتم العشرة بين يدي فاهمين لإشارتي وكلما يدخل واحدٌ فخذوه وأدخلوا به هذا البيت وأقتلوه وأخفوا جثته، فقالوا: سمعاً لقولك وطاعةً لأمرك، فعند ذلك أحسن إليهم وصرفهم وبات، فلما أصبح طلبهم وأمر بنصب السرير ثم لبس ثياب الملك وأخذ في يده كتاب القضاء وأمر بفتح الباب ففتح وأوقف العشرة عبيد بين يديه ونادى من كان له حكومة فليحضر إلى بساط الملك فأتى الوزراء والقواد والحجاب ووقف كل واحدٍ في مرتبته ثم أمر لهم بالدخول واحداً بعد واحدٍ فدخل شماس الوزير أولاً كما هي عادة الوزير الأكبر.فلما دخل واستقر قدام الملك لم يشعر إلا والعشرة عبيد محتاطون به وأخذوه وأدخلوه البيت وقتلوه وأقبلوا على باقي الوزراء ثم العلماء ثم الصلحاء فصاروا يقتلونهم واحداً بعد واحدٍ حتى فرغوا من الجميع، ثم دعا بالجلادين وأمرهم بحط السيف فيمن بقي من أهل الشجاعة وقوة البأس فلم يتركوا أحداً ممن يعرفون أن له شهامةً إلا وقتلوه ولم يتركوا إلا سفلة الناس ورعاعهم ثم طردهم ولحق كل واحدٍ منهم بأهله.ثم بعد ذلك اختلى الملك بلذاته وأعطى نفسه شهواتها واتبع البغي والجور والظلم حتى سبق من تقدمه من أهل الشر، وكانت بلاد هذا الملك معدن الذهب والفضة والياقوت والجواهر وجميع من حوله من الملوك يحسدونه على هذه المملكة ويتوقعون له البلاء فقال في نفسه بعض الملوك المجاورين له أني ظفرت بما كنت أريد من أخذ هذه المملكة من يد هذا الولد الجاهل بسبب ما حصل من قتله لأكابر دولته وأهل الشجاعة والنجدة الذين كانوا في أرضه فهذا هو وقت الفرصة وانتزاع ما في يده لكونه صغيراً ولا درايةً له بالحرب ولا رأي له ولم يبق عنده من يرشده ولا من يعضده، فأنا اليوم أفتح معه باب الشر وهو أني أكتب له كتاباً وأبعث به فيه وأبكته على ما حصل منه وأنظر ما يكون من جوابه.فكتب له مكتوباً مضمونه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فقد بلغني ما فعلت بوزرائك وعلمائك وجبابرتك وما أوقعت نفسك فيه من البلاء حتى لم يبق لك طاقة ولا قوة على دفع من يصول عليك حين طغيت وأفسدت وأن الله قد أعطاني النصر عليك وظفرني بك فاسمع كلامي وأمتثل أمري. أن لي قصراً معيناً في وسط البحر وأن لم تقدر على ذلك فأخرج من بلادك وفز بنفسك فإني باعثٌ إليك من أقصى الهند اثني عشر كردوساً من كردوس اثنا عشر ألف مقاتل فيدخلون بلادك وينهبون أموالك ويقتلون رجالك ويسبون حريمك وأجعل قائدهم بديعاً وزيري وآمره أن يرسخ عليها محاصر إلى أن يملكها، وقد أمرت هذا الغلام المرسل إليك أنه لا يقيم عندك غير ثلاثة أيامٍ فأن امتثلت أمري نجوت وإلا أرسلت إليك ما ذكرته لك.ثم ختم الكتاب وأعطاه للرسول فسار به حتى وصل إلى تلك المدينة ودخل على الملك وأعطاه الكتاب، فلما قرأه الملك ضعفت قوته وضاق صدره وألتبس عليه أمره وتحقق الهلاك ولم يجد من يستشيره ولا من يستعين به ولا من ينجده، فقام ودخل على زوجته وهو متغير اللون فقالت له: ما شأنك أيها الملك? فقال لها: لست اليوم بملك ولكني عبدٌ للملك، ثم فتح الكتاب وقرأه عليها فلما سمعته أخذت في البكاء والنحيب وشقت ثيابها، فقال لها الملك: هل عندك شيءٌ من الرأي والحيلة في هذا الأمر العسير? فقالت له: وما عند النساء من الحيلة في الحروب والنساء لا قوة لهن ولا رأي لهن وإنما القوة والرأي والحيلة للرجال في مثل هذا الأمر. فلما سمع الملك منها هذا الكلام حصل له غاية الندم والتأسف والكآبة على ما فرط منه في حق جماعته ورؤساء دولته.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 877
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 878
وفي الليلة العشرين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك لما سمع من زوجته ذلك الكلام حصل له غاية الندم والتأسف على ما فرط منه من قتل وزرائه وأشراف رعيته وتمنى الموت لنفسه قبل أن يرد عليه مثل هذا الخبر الفظيع، ثم قال لنسائه: لقد وقع لي منكن ما وقع للدراج مع السحالف، فقلن له: وكيف كان ذلك? فقال الملك: زعموا أن سحالف كانت في جزيرةٍ من الجزائر وكانت تلك الجزيرة ذات أشجارٍ وأثمارٍ وأنهارٍ، فاتفق أن دراجاً اجتاز بها يوماً وقد أصابه الحر والتعب، فلما أضر به ذلك حط من طيرانه في تلك الجزيرة التي بها تلك السحالف، فلما رأى السحالف التجأ إليها ونزل عندها وكانت السحالف ترعى في جهات الجزيرة ثم ترجع إلى مكانها، فلما رجعت من مسارحها إلى مكانها، رأت الدراج فيه فلما رأته أعجبها وزينه الله لها فسبحت خالقها وأحبت هذا الدراج حباً شديداً وفرحت به ثم قال بعضها لبعضٍ: لا شك أن هذا من أحسن الطيور فصارت كلها تلاطفه وتجنح إليه فلما رأى منها عين المحبة مال إليها واستأنس بها وصار يطير إلى أية جهة أراد وعند المساء يرجع إلى المبيت عندها فإذا أصبح الصباح يطير إلى حيث أراد وصارت عادته واستمر على هذه الحال مدةً من الزمان فلما رأت السحالف أن غيابه عنها يوحشها وتحققت أنها لا تراه إلا في الليل وإذا أصبح طار مبادراً ولا تشعر به مع زيادة حبها له.قال بعضهم لبعضٍ: إن هذا الدراج قد أحببناه وصار لنا صديقاً وما بقي لنا قدرةٌ على فراقه فما يكون من الحيلة الموصلة إلى إقامته عندنا دائماً لأنه إذا طار يغيب عنا النهار كله ولا نراه إلا في الليل، فأشارت عليهن واحدةٌ قائلةٌ: استريحوا يا أخوتي وأنا أجعله لا يفارقنا طرفة عينٍ، فقال لها الجميع: إن فعلت ذلك صرنا لك كلنا عبيداً، فلما حضر الدراج من مسرحه وجلس بينهم تقربت منه السلحفة المحتالة ودعت له وهنأته بالسلامة وقالت له: يا سيدي اعلم أنه قد رزقك منا المحبة وكذلك أودع قلبك محبتنا وصرت لنا في هذا القفر أنيساً وأحسن أوقات المحبين إذا كانوا مجتمعين والبلاء العظيم في البعد والفراق ولكنك تتركنا عند طلوع الفجر ولم تعد إلينا إلا عند الغروب فيصير عندنا وحشةٌ زائدةٌ وقد شق علينا كثيراً ونحن في وجدٍ عظيمٍ لهذا السبب. فقال لها الدراج: نعم أنا عندي محبةٌ لكم واشتياقٌ عظيمٌ إليكم زيادة على ما عندكن وفراقكن ليس سهلاً عندي ولكن ما بيدي حيلة في ذلك لكوني طيراً ذو أجنحةٍ فلا يمكنني المقام معكن دائماً لأن هذا ليس من طبعي فأنا الطير ذا الأجنحة ليس له مستقراً إلا في الليل لأجل النوم وإذا أصبح طار وسرح في أي موضعٍ أعجبه. فقالت له السلحفة: صدقت ولكن ذو الأجنحة في غالب الأوقات لا راحة له ولكونه لا يناله من الخير ربع ما يحصل له من المشقة وغاية المقصود للشخص الرفاهية والراحة ونحن قد جعل الله بيننا وبينك المحبة والألفة ونخشى عليك ممن يصطادك من أعدائك فتهلك ونحرم من رؤية وجهك، فأجابها الدراج قائلاً: صدقت ولكن ما عندك من الرأي والحيلة في أمري? فقالت له: الرأي عندي أن تنتف سواعدك التي تسرع بطيرانك وتقعد عندنا مستريحاً وتأكل من أكلنا وتشرب من شربنا في هذه المسرحة الكثيرة الأشجار اليانعة الأثمار ونقيم نحن وأنت في هذا الموضع الخصب ويتمتع كل منا بصاحبه.فمال الدراج إلى قولها وقصد الراحة لنفسه ثم نتف ريشةً واحدةً بعد واحدةٍ حسب ما استحسنه من رأي السلحفة واستقر عندهن عائشاً معهن ورضي باللذة اليسيرة والطرب الزائل. فبينما هم على تلك الحالة وإذا بابن عرس قد مر عليه فرمقه بعينيه وتأمله فرآه مقصوص الجناح لا يستطيع النهوض، فلما رآه على تلك الحالة فرح به فرحاً شديداً وقال في نفسه: إن هذا الدراج سمين اللحم قليل الريش، ثم دنا منه ابن عرس وافترسه فصاح الدراج وطلب النجدة من السحالف فلم تنجده بل تباعدن عنه وانكمش في بعضهن لما رأينا ابن عرس قابضاً عليه وحين رأينا ابن عرس يعذبه خنقهن البكاء عليه.
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 878
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 879
فقال لهن الدراج: هل عندكن شيءٌ غير البكاء? فقلن له: يا أخانا ليس لنا قوةٌ وطاقةٌ ولا حيلةٌ في أمر ابن عرس فحزن الدراج عند ذلك وقطع الرجاء من حياة نفسه وقال لهن: ليس لكن ذنبٌ إنما الذنب لي حيث أطعتكن ونتفت أجنحتي التي أطير بها فأنا استحق الهلاك لمطاوعتي لكن لا ألومكن في شيءٍ وأنا الآن لا ألومكن أيتها النساء بل ألوم نفسي وأؤدبها حيث لم أتذكر أنكن الشهوة التي حصلت من أبينا آدم لأجلها خرج ونسيت أنكن أصل كل شرٍ فأطعتكن بجهلي وخطأ رأيي وسوء تدبيري وقتلت وزرائي وحكام مملكتي الذين كانوا نصحاء لي في الأمور وكانوا عدتي وقوتي على كل أمرٍ أهمني فأنا الآن لا أجد عوضاً عنهم ولا أرى أحداً يقوم مقامهم وقد وقعت في الهلاك العظيم.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والعشرين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك لام نفسه وقال: أنا الذي أطعتكن بجهلي وقتلت وزرائي ولم أجد عوضاً عنهم يقوم مقامهم وإن لم يفتح الله علي بمن له رأيٌ سديدٌ يرشدني إلى ما فيه خلاصي ووقعت في الهلكة العظيمة ثم أنه قام ودخل مرقده بعد أن نعى الوزراء والحكماء قائلاً يا ليت هؤلاء الأسود عندي في هذا الوقت ولو ساعةً واحدةً حتى اعتذر إليهم وأنظرهم وأشكوا إليهم أمري وما حل بي بعدهم ولم يزل غريقاً في بحر الهم طول نهاره لا يأكل ولا يشرب فلما جن عليه الليل وغير لباسه ولبس ثياباً رديئةً وتنكر وخرج يسبح في المدينة لعله يسمع من أحدٍ كلمة يرتاح بها فبينما هو يطوف الشوارع وإذا هو بغلامين مختليين بأنفسهما جالسين بجانب حائط وهما مستويان في السن عمر كل واحد منهما اثنتا عشر سنةً فسمعهما يتحدثان مع بعضهما فدنا منهما الملك بحيث يسمع كلامهما ويفهمه فسمع واحدٌ منهما يقول للأخر: اسمع ما حكاه لي والدي ليلة أمس من أجل ما وقع له في زرعه ويبسه قبل أوانه بسبب عدم المطر وكثرة البلاء الحاصل في هذه المدينة. فقال له الأخر: أتعرف ما سبب هذا البلاء له? قال: لا فإن كنت تعرفه أنت فأذكره لي فأجابه قائلاً: نعم أعرفه وأخبرك به. اعلم أن بعض أصحاب والدي قال لي: إن ملكنا قتل وزراءه وعظماء دولته من غير ذنبٍ جنوه بل من أجل حبه للنساء وميله إليهن وأن الوزراء نهوه عن ذلك فلم ينته وأمر بقتلهم طاعةً لنسائه حتى أنه قتل شماساً وزيره ووزير والده من قبله وكان صاحب مشورته ولكن الخوف تنظر ما يفعل الله به بسبب ذنوبهم فسينتقم لهم منه فقال الغلام: وما عسى أن يفعل الله به بعد هلاكهم? قال له: اعلم أن ملك الهند الأقصى قد استخف بملكنا وبعث إليه بكتاب يوبخه فيه ويقول له: ابني لي قصراً في وسط البحر وإن لم تفعل ذلك فأنا أرسل إليك اثني عشر كردوساً كل كردوس فيه اثنا عشر ألف مقاتلٍ واجعل قائد هذه العساكر بديعاً وزيري فيأخذ ملكك ويقتل رجالك ويسبيك مع حريمك فلما جاء رسول ملك الهند الأقصى بهذا الكتاب أمهله ثلاثة أيامٍ واعلم يا أخي أن ذلك الملك الجبار عنيدٌ ذو قوة وبأس شديد وفي مملكته خلق كثيرٌ وأن لم يحتل ملكنا فيما يمنعه وقع في الهلكة وبعد هلاك ملكنا يأخذ هذا الملك أرزاقنا ويقتل رجالنا ويسبي حريمنا.فلما سمع الملك منهما هذا الكلام زاد اضطراباً ومال إليهما وقال في نفسه إن هذا الكلام لحكيمٌ لكونه أخبر عن شيء لم يبلغه مني فأن الكتاب الذي جاء من ملك أقصى الهند عندي والسر معي ولم يطلع أحدٌ على هذا الخبر غيري فكيف علم هذا الغلام به ولكن أنا ألتجيء إليه وأكلمه وأسأل الله أن يكون خلاصنا على يديه ثم أن الملك دنا من الغلام بلطفٍ وقال له: أيها الولد الحبيب ما هذا الذي ذكرته من أجل ملكنا فأنه قد أساء كل الإساءة في قتل وزرائه وكبراء دولته لكنه في الحقيقة قد أساء لنفسه ورعيته أنت صدقت فيما قلته ولكن عرفني أيها الولد من أين عرفت أن ملك الهند الأقصى كتب إلى ملكنا كتاباً ووبخه فيه وقال له هذا الكلام الصعب الذي قلته? قال له هذا الغلام: قد علمت هذا من قول القدماء أنه ليس يخفى على الله خافيةٌ والخلق من بني آدم فيهم روحانية تظهر لهم الأسرار الخفية.
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 879
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 880
فقال له: صدقت يا ولدي ولكن هل لملكنا حيلةٌ وتدبيرٌ يدفع به عن نفسه وعن مملكته البلاء العظيم? فأجاب الغلام قائلاً: نعم إذ أرسل إلي وسألني ماذا يصنع ليدفع به عدوه وينجو من أخبرته بما فيه نجاته قوة الله تعالى قال له الملك: ومن يعلم الملك بذلك حتى يرسل إليك ويدعوك فأجاب الغلام قائلاً: إني سمعت عنه أنه يفتش على أهل الخبرة والرأي الرشيد وإذا أرسل إلي سرت معهم إليه وعرفت بما فيه صلاحه ودفع البلاء عنه وأن أهمل هذا الأمر العسير اشتغل بها ودفع نسائه وأردت أن أعلمه أبما فيه حياته وتوجهت إليه من تلقاء نفسي فإنه يأمر بقتلي مثل أولئك الوزراء وتكون معرفتي به سبباً لهلاكي وتستقل الناس بي ويستنقصون عقلي وأكون من مضمون قول من قال: من كان علمه أكثر من عقله هلك ذلك العالم.فلما سمع الملك كلام الغلام تحقق حكمته وتبين فضيلته أن النجاة تحصل له ولرعيته على يديه فعند ذلك أعاد الملك الكلام على الغلام وقال له: من أين أنت? وأين بيتك? فقال له الغلام: إن هذه الحائط توصل إلى بيتنا فتعهد الملك ذلك المكان ثم أنه ودع الغلام ورجع إلى مملكته مسروراً فلما استقر في بيته لبس ودعا بالطعام والشراب ومنع عنه النساء وأكل وشرب وشكر الله تعالى وطلب منه النجاة والمعونة والمغفرة والعفو عما فعل بعلماء دولته ورؤسائهم ثم تاب إلى الله توبةً خالصةً وافترض على نفسه الصوم والصلاة الكثيرة بالنذر ودعا بأخذ غلمانه الخواص ووصف له مكان الغلام وأمره أن ينطلق إليه ويحضره بين يديه برفقٍ، فمضى ذلك العبد إلى الغلام وقال له: الملك يدعوك لخيرٍ يصل إليك من قبله ويسألك سؤالاً ثم تعود في خير إلى منزلك فأجاب الغلام قائلاً: وما حاجة الملك التي دعاني من أجلها? قال له الغلام: إن حاجة مولاي التي دعاك من أجلها هي سؤال وجواب فقال له الغلام: ألف سمعٍ وألف طاعةٍ لأمر الملك ثم سار معه حتى وصل إليه فلما صار بين يديه سجد لله ودعا للملك بعد أن سلم عليه فرد الملك عليه السلام وأمره بالجلوس فجلس.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والعشرين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام لما جاء إلى الملك وسلم عليه أمره بالجلوس فجلس فقال له: هل تعرف من تكلم معك بالأمس? قال الغلام: نعم قال له: فأين هو? فأجابه بقوله: هو الذي يكلمني في هذا الوقت فقال له الملك: لقد صدقت أيها الحبيب ثم أمر الملك بوضع كرسي بجانب كرسيه وأجلسه عليها وأمر بإحضار أكل وشرب قم امتزجا في الحديث إلى أن قال للغلام: إنك أيها الوزير حدثتني بالأمس حديثاً وذكرت فيه أن معك حيلة تدفع بها عنا كيد ملك الهند فما هي الحيلة وكيف التدبير في دفع شره فأخبرني لكي أجعلك أول من يتكلم معي في الملك وأصطفيك وزير إلي وأكون تابعاً لرأيك في كل ما أشرت به علي وأجيزك جائزةً سنيةً.قال الغلام له: جائزتك لك أيها الملك والملك والمشورة والتدبير عند نسائك اللاتي أشرن عليك بقتل والدي شماس مع بقية الوزراء فلما سمع الملك منه ذلك خجل وتنهد وقال أيها الولد الحبيب وهل شماس والدك كما ذكرت? فأجابه الغلام قائلاً: إن شماساً والدي حقا وأنا ولده صدقاً فعند ذلك خشع الملك ودمعت عيناه واستغفر الله وقال: أيها الغلام أني فعلت ذلك بجهلي وسوء تدبير النساء وكيدهن أسألك أن تكون متسامحاً لي وأني جاعلك في موضع أبيك وأعلى مقاماً من مقامه وإذا زالت هذه النقمة النازلة بنا طوقتك بطوق الذهب وأركبتك أعز مركوب وأمرت المنادي أن ينادي قدامك قائلاً: هذا الولد العزيز صاحب الكرسي الثاني بعد الملك وأما ما ذكرت من أمر النساء فإني أضمرت الإنتقام منهن ورجليه في الوقت الذي يريده الله تعالى فأخبرني بما عندك من التدبير ليطمئن قلبي? فأجابه الغلام قائلاً: أعطني عهداً أنك لا تخالف رأيي فيما أذكر لك وأني أكون مما أخشاه في أمان.
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 880
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 881
فقال له الملك: هذا عهد الله بين وبينك أني لا أخرج عن كلامك وأنك عندي صاحب المشورة ومهما أمرتني به فعلته والشاهد بيني وبينك على ما أقوله هو الله تعالى فعند ذلك انشرح صدر الغلام واتسع عنده مجال الكلام، فقال: أيها الملك إن التدبير والحيلة عندي أنك تنظر الوقت الذي يحضر لك فيه الساعي طالب الجواب بعد المهلة التي أمهلته إياها فإذا حضر بين يديك وطلب الجواب فأدفعه عنك وأمهله إلى يومٍ آخر فعند ذلك يعتذر إليك أن ملكه حدد عليه أياماً معلومةً فيراجعك في كلامك فأطرحه وأمهله إلى يوم آخر ولا تعين له ذلك اليوم فيخرج من عندك غضبان ويتوجه إلى وسط المدينة ويتكلم جهراً بين الناس ويقول: يا أهل المدينة أني ساعي ملك الهند الأقصى وهو صاحب بأسٍ شديدٍ وعزمٍ يلين له الحديد قد أرسلني بكتابٍ إلى ملك هذه المدينة وجدد لي أياما وقال لي أن لم تحضر عقب الأيام التي حددتها لك حلت بك نقمتي وها أنا جئت إلى ملك هذه المدينة وأعطيته الكتاب فلما قرأه أمهلني أيام ثم لم يعطني ذلك الكتاب فأجتبه إلى ذلك لطفاً به ورعاية لخاطره وقد مضت الثلاثة أيام وأتيت أطلب من الجواب فأمهلني إلى يومٍ آخر وأنا ليس عندي صبراً، فها أنا منطلقٌ إلى سيدي ملك الهند الأقصى وأخبره بما وقع لي وأنتم أيها القوم شاهدون بيني وبينه فعند ذلك يبلغك كلامه المرسل إليه وأحضره بين يديك وكلمه بلطفٍ وقل له: أيها الساعي لإتلاف نفسه أي حملك على ملامتنا بين رعيتنا لقد استحقيت منا التلف عاجلاً ولكن قالت القدماء: العفو من شيم الكرام وأعلم أن تأخير الجواب عنك ليس عجزاً منا وإنما هو لزيادة أشغالنا وقلة تفرغنا لكتابة جواب ملككم ثم أطلب الكتاب واقرأه ثانياً.وبعد أن تفرغ من قراءته أكثر من الضحك وقل له: هل معك كتاب غير هذا الكتاب فنكتب جواباً له أيضاً فيقول لك: معي كتاب غير هذا الكتاب فأعد عليه بالقول ثانياً فيقول لك: ليس معي غيره أصلاً فقل له: إن ملككم هذا معدوم العقل حيث ذكر في هذا الكتاب كلاماً يريد به تقويم نفوسنا لأجل أن نتوجه بعسكرنا إليه فنغزو بلاده ونأخذ مملكته ولكن لا تؤاخذه في هذه المرة على إساءة أدبه بهذا الكتاب لأنه قاصر العقل ضعيف الحزم فالمناسب لمقدرتنا أننا ننذره ولا نحذره من أن يعود لمثل هذه الهذيانات فإن خاطر بنفسه وعاد إلى مثلها استحق البلاء عاجلاً وآمن أن الذي أرسلك جاهلاً أحمق غير مفكر في العواقب وليس له وزير عاقل سديد الرأي يستشيره ولو كان عاقلاً لاستشار وزيراً قبل أن يرسل إلينا مثل هذا الكلام السخرية ولكن له عندي جواب مثل كتابه وأزيد وأنا أدفع كتابه لبعض صبيان الكتب ليجيبه ثم أرسل إلي واطلبني فإذا حضرت بين يديك فأذن لي بقراءة الكتاب ورد جوابه.فعند ذلك انشرح صدر الملك واستحسن رأي الغلام وأعجبته حيلته فأنعم عليه وخوله رتبة والده وصرفه مسروراً فلما انقضت الثلاثة أيام التي جعلها مهلةً للساعي جاء الساعي ودخل على الملك وطلب الجواب فأمهله الملك إلى يوم آخر فخرج البساط وتكلم بكلامٍ غير لائق مثل ما قال الغلام ثم خرج إلى السوق وقال: يا أهل هذه المدينة إني رسول ملك الهند الأقصى إلى ملككم جئته برسالةٍ وهو يماطلني في جوابها وقد انقضت المدة التي حددها لي ملكنا ولم يبق لملككم عذرٌ فأنتم تكونون الشهداء على ذلك. فلما بلغ الملك هذا الكلام أرسل إلى ذلك الساعي وأحضره بين يديه وقال له: أيها الساعي في إتلاف نفسه ألست ناقلاً كتاباً من ملك إلى ملك بينهما أسرار فكيف تخرج بين الناس وتظهر أسرار الملوك على العامة فقد استحقيت منا القصاص ولكن نحن نتحل ذلك لأجل عود جوابك لهذا الملك الأحمق والأنسب أن لا يرد له جواباً عنا إلا أقل صبيان المكتب ودعا حضور ذلك الغلام فحضر ولما دخل على الملك والساعي حضر سجد لله ودعا للملك بدوام العز والبقاء فعند ذلك رمى الملك الكتاب للغلام وقال له: اقرأ هذا الكتاب واكتب جوابه بسرعة فأخذ الغلام الكتاب وقرأه وتبسم بالضحك وقال للملك: هل أرسلت خلفي لأجل جواب هذا الكتاب? فقال له: نعم فأجاب بمزيد السمع والطاعة وأخرج الدواة والقرطاس وكتب.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والعشرين بعد التسعمائة
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 881
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 882
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام لما أخذ الكتاب وقرأه أخرج في الوقت دواةً وقرطاساً وكتب بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من بالأمان ورحمة الرحمن أما بعد فأني أعلمك أيها المدعو ملكاً كبيراً اسماً لا رسماً أنه قد وصل إلينا كتابك وقرأناه وفهمنا ما فيه من الخرافات وغريب الهذيانات فتحققنا جهلك وبغيك علينا وقد مددت يديك إلى ما لا تقدر عليه ولولا أن الرأفة أخذتنا على خلق الله والرعية لما تأخرنا عنك وأما رسولك فأنه خرج إلى السوق ونشر أخبار كتابك على الخاص والعام فيستحق منا القصاص ولكن أبقيناه رحمةً منا له لكونه معذوراً معك ولم نترك قصاصة وقاراً لك.فأما ما ذكرته في كتابك من قتلي لوزرائي أو علمائي وكبار مملكتي ذلك حق ولكن لسبب قام عندي وما قتلت من العلماء واحداً إلا وعندي من جنسه ألف أعلم منه وأفهم وأعقل وليس عندي طفلٌ إلا وهو ممتلئ من العلوم وعندي عوضاً من كل واحدٍ من المقتولين من فضلاء نوعه ما لا أقدر أن أحصيه وكل واحد من عسكري يقاوم كردوساً من عسكرك أما من جهة المال فإن عندي معامل الذهب والفضة وأما المعادن فأنها عندي كقطع الحجارة وأما أهل مملكتي فإني لا أقدر أن أصف لك حسنهم وجمالهم وغناهم، فكيف تجاسرت علينا وقلت لنا: ابن قصراً في وسط البحر فإن هذا أمرٌ عجيبٌ ولعله ناشئ عن سخافة عقلك لأنه لو كان لك عقلٌ لكنت فحصت عن دفعات الأمواج وحركات الرياح وأنا أبني لك القصر، وأما زعمك أنك تظفرني فحاش لله من ذلك كيف يبغي علينا مثلك ويظفر بملكنا بل أن الله تعالى يظفرني لكونك معتدياً باغياً علي بغير حقٍ فاعلم أن أمك استوجبت العذاب من الله ومني ولكن أنا أخاف الله فيك في رعيتك ولا أركب عليك إلا بعد النذارة فإن كنت تخشى الله فعجل لي بإرسال خراج هذه السنة وإلا لا أرجع عن الركوب عليك ومعي ألف ومائة ألف مقاتل، كلهم جبابرة بأفيال فسردهم حول وزيرنا وآمره أن يقيم على محاصرتك ثلاث سنوات نظير الثلاثة أيام التي أمهلتها لقاصدك وأتملك مملكتك بحيث لا أقتل منها أحداً غير نفسك ولا أسبى منها غير حريمك.ثم صور الغلام في المكتوب صورته وكتب بجانبها: إن هذا الجواب كتبه أصغر أولاد الكتاب ثم سلمه إلى الملك فأعطاه الملك للساعي فأخذه الساعي وقبل يدي الملك ومضى من عنده شاكر الله تعالى وللملك على حلمه وانطلق وهو يتعجب مما رأى من حذق الغلام، فلما وصل إلى ملكه وكان دخوله عليه في اليوم الثالث بعد الثلاثة أيام المحدودة له وكان الملك في ذلك الوقت ناصب الديوان بسبب تأخير الساعي عن المدة المحددة له فلما دخل عليه سجد بين يديه ثم أعطاه الكتاب فأخذه الملك وسأل الساعي عن سبب إبطائه وعن أحوال الملك وردخان فقص عليه القصة وحكى له جميع ما نظره بعينيه وسمعه بأذنيه فاندهش عقل الملك وقال للساعي: ويحك ما هذه الأخبار التي تخبرني بها عن مثل هذا الملك? فأجابه الساعي قائلاً: أيها الملك العزيز ها أنا بين يديك فافتح الكتاب واقرأه يظهر لك الصدق من الكذب فعند ذلك فتح الملك الكتاب وقرأه نظر فيه صورة الغلام الذي كتبه فأيقن زوال ملكه وتحير فيما يكون من أمره، ثم التفت إلى وزرائه وعلمائه وأرباب دولته وأخبرهم بما جرى وقرأ عليهم الكتاب فارتاعوا لذلك وارتعبوا رعباً عظيماً وصاروا يسكنون من روع الملك بكلام من ظاهر اللسان وقلوبهم تتمزق من الخفقان، ثم أن بديعاً الوزير الكبير قال: اعلم أيها الملك إن الذي يقوله أخوتي من الوزراء لا فائدة فيه والرأي عندي أنك تكتب لهذا الملك كتاباً وتعتذر إليه فيه وتقول له أنا محبٌ لك ولوالدك من قبلك وما أرسلنا إليك الساعي بهذا الكتاب إلا على طريق الإمتحان لك لننظر عزائمك وما عندك من الشجاعة والأمور العملية والعلمية والرموز الخفية وما أنت منطوٍ عليه من الكمالات الكلية ونسأل الله تعالى أن يبارك لك في مملكتك ويشيد حصون مدينتك ويزيد في سلطانك حيث كنت حافظاً لنفسك فتتم أمور رعيتك وأرسله مع ساعٍ آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق