وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والثلاثين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما رأت علياً نور الدين تعلق قلبها بمحبته فالتفتت إلى الدلال وقالت له: هل هذا الشاب التاجر الذي هو جالس بين التجار وعليه الفرجية الجوخ العود ما راد في تمني شيئاً? فقال لها الدلال: يا سيدة الملاح إن هذا شابٌ غريبٌ مصريٌ والده من أكابر التجار بمصر وله الفضل على جميع تجارها وأكابرها وله مدةٌ يسيرةٌ في هذه المدينة وهو مقيمٌ عند رجلٍ من أصحاب أبيه ولم يتكلم فيك بزيادة لا نقصان.فلما سمعت الجارية كلام الدلال نزعت من إصبعها خاتم ياقوتٌ وقالت: أوصلني عند هذا الشاب المليح فإن اشتراني كان هذا الخاتم لك في نظير تعبك في هذا اليوم معنا ففرح الدلال وتوجه إلى نور الدين فلما صارت عنده تأملته فرأته كأنه بدر التمام لأنه ظريف الجمال رشيق القد والإعتدال فقالت له: يا سيدي بالله عليك ما أنا مليحةٌ? فقال لها: يا سيدة الملاح، وهل في الدنيا أحسن منك? فقالت له الجارية: ولأي شيءٍ رأيت التجار كلهم زادوا في ثمني، وأنت ساكتٌ ما تكلمت بشيء ولازدت في ثمني ديناراً واحداً كأنني ما عجبتك يا سيدي، فقال لها: يا سيدتي لو كنت في بلدي كنت اشتريتك بجميع ما تملكه يدي من المال فقالت له يا سيدي أنا ما قلت لك اشترني على غير مرادك ولكن لو زدت في ثمني بشيءٍ لجبرت خاطري ولو كنت لا تشتريني لأجل أن تقول التجار: لولا أن هذه الجارية مليحةً ما زاد فيها هذا التاجر المصري لأن أهل مصر لهم خبرةٌ بالجواري فعند ذلك استحى نور الدين من كلام الجارية الذي ذكرته وأحمر وجهه وقال للدلال: كم بلغ ثمن هذه الجارية? قال: بلغ ثمنها تسعمائةٍ وخمسين ديناراً غير الدلالة وأما قانون السلطان فإنه على البائع فقال نور الدين للدلال: خلها علي بالألف دينارٍ دلالةً وثمناً فبادرت الجارية وتركت الدلال وقالت بعت نفسي لهذا الشاب المليح بألف دينار فسكت نور الدين، فقال واحدٌ: بعناه وقال آخر يستاهل وقال آخر: ملعون ابن ملعون من يزود ولا يشتري وقال آخر: والله أنهما يصلحان لبعضهما فلم يشعر نور الدين إلا والدلال أحضر القضاة والشهود وكتبوا عقد البيع والشراء في ورقةٍ وناولها لنور الدين.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والثلاثين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الدلال ناول ورقة الشراء لنور الدين وقال له: تسلم جاريتك الله يجعلها مباركةٌ عليك فهي ما تصلح إلا لك ولا تصلح أنت إلا لها وأنشد الدلال هذين البيتين:
أتته السعادة منقـادةٌ
إليه تجرجر أذيالهـا
فلم تك تصلح إلا لـه
ولم يك يصلح إلا لها فعند ذلك استحى نور الدين من التجار وقام من وقته وساعته ووزن الألف دينار التي كان وضعها وديعةً عند العطار صاحب أبيه وأخذ الجارية وأتى بها إلى البيت الذي أسكنه فيه العطار فلما دخلت الجارية البيت رأت فيه بساط خلق ونطعاً عتيقاً فقالت له: يا سيدي هل أنا ما لي منزلةٌ عندك ولا استحق أن توصلني إلى بيتك الأصلي على الذي فيه مصالحك ولأي شيء ما دخلت بي عند أبيك? فقال لها نور الدين: والله يا سيدة الملاح ما هذا بيتي الذي أنا فيه ولكنه ملك الشيخ عطار من أهل هذه المدينة وقد أخلاه لي وأسكنني فيه وقد قلت لك أنني غريبٌ وأنني في أولاد مدينة مصر فقالت له الجارية: يا سيدي أقل البيوت يكفي إلى بلدك ولكن يا سيدي بالله عليك أن تقوم وتأتي لنا بشيءٍ من اللحم المشوي والمدام والنقل والفاكهة فقال لها نور الدين: والله يا سيدة الملاح ما كان عندي من المال غير الألف دينار الذي وزنته في ثمنك ولا أملك غير تلك الدنانير شيئاً من المال وكان معي بعض دراهم صرفتها بالأمس.
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 814
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 815
فقالت له: أما لك في هذه المدينة صديق تقترض منه خمسين درهماً وتأتيني بها، حتى أقول لك أي شيء تفعل بها، فقال لها: ما لي صديق سوى العطار، ثم ذهب من وقته وتوجه إلى العطار وقال له: السلام عليك يا عم، فرد عليه السلام وقال: يا ولدي أي شيء اشتريت بالألف دينار في هذا اليوم? فقال له: اشتريت بها جاريةً. فقال له: يا ولدي هل أنت مجنون حتى تشتري جاريةً واحدةً بألف دينارٍ? ما جنس هذه الجارية? فقال نور الدين: يا عم أنها جارية من أولاد الفرنج.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والثلاثين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد إن نور الدين قال للشيخ العطار إنها جاريةٌ من أولاد الإفرنج. فقال له الشيخ: أعلم يا ولدي أن خيار أولاد الإفرنج عندنا في هذه المدينة ثمنه مائتي دينارٍ ولكن والله يا ولدي قد عملت عليك حيلةً في هذه الجارية فإن كنت أحبتها فبت عندها في هذه الليلة واقض غرضك منها وأصبح أنزل بها السوق وبعها ولو كنت تخسر فيها مائتي دينار وقدر أنها غرفت في البحر أو طلع عليك اللصوص في الطريق.فقال نور الدين: كلامك صحيحٌ ولكن يا عم أنت تعرف أنه ما كان معي غير الألف دينارٍ التي اشتريت بها الجارية ولم يبق معي شيءٌ أنفقه ولا درهمٌ واحدٌ، وإني أريد من فضلك أن تقرضني خمسين درهماً أنفقها إلى غدٍ فأبيع الجارية وأردها لك من ثمنها. فقال الشيخ: أعطيك يا ولدي على الرأس والعين ثم وزن له خمسين درهماً وقال له: يا ولدي أنت شابٌ صغيرٌ السن وهذه الجارية مليحةٌ وربما تعلق بها قلبك فما يهون عليك أن تبيعها وأنت ما تملك شيئاً تنفقه فتفرغ منك هذه الخمسين درهماً فتأتيني فأقرضك أول مرةٍ وثاني مرةٍ وثالث مرةٍ إلى عشر مراتٍ فإذا أتيتني بعد ذلك فلا أرد عليك السلام الشرعي وتضييع محبتنا مع والدك.ثم ناوله الشيخ خمسين درهماً فأخذها نور الدين وأتى بها إلى الجارية، فقالت له: يا سيدي رح السوق في هذه الساعة وهات لنا بعشرين درهماً حريراً ملوناً خمسة ألوانٍ وهات لنا بالثلاثين الأخرى لحماً وخبزاً وفاكهةً وشراباً ومشموماً.فعند ذلك ذهب نور الدين إلى السوق واشترى منه كل ما طلبته تلك الجارية فقامت من وقتها وساعتها وشمرت عن يديها وطبخت طعاماً وأتقنته غاية الإتقان، ثم قدمت له الطعام فأكل وأكلت معه حتى اكتفيا، ثم قدمت المدام وشربت هي وإياه ولم تزل تسقيه وتؤانسه إلى أن سكر ونام، فقامت الجارية من وقتها وساعتها وأخرجت من بقجتها جراباً من أديم طائفي وأخرجت منه مسمارين وقعدت وعملت شغلها إلى أن فرغ فصار زناراً مليحاً فلفته في خرقةٍ بعد صقله وتنظيفه ووضعته تحت المخدة.ثم قامت وتعرت ونامت بجانب نور الدين وكبسته فانتبه من نومه فوجد بجانبه صبيةً كأنها فضةٌ نقيةٌ أنعم من الحرير وأطرى من الليلة وهي أشهر من علمٍ وأحسن من حمر النعم، خماسية القد قاعدة النهد بحواجب كأنها أقسى من السهام وعيونٍ كأنها عيون غزلان وخدودٍ كأنها شقائق النعمان وبطنٍ خمصية الأعكان وسرةٍ تسع أوقية من دهن البان وفخذان كأنهما مخدتان محشوتان من ريش النعام وبينهما شيءٌ يكل عن وصفه اللسان وتنسكب عند ذكره العبرات.فعند ذلك التفت نور الدين من وقته وساعته إلى تلك الجارية وضمها إلى صدره ومص شفتها الفوقانية بعد أن مص التحتانية ثم لزق اللسان بين الشفتين وقام إليها مصوباً مدفعه فوجدها درةً ما ثقبت ومطيةً لغيره ما ركبت فأزال عنها بكارتها ونال منها الوصال وانعقدت بينهما المحبة بلا انفكاكٍ ولا انفصال، وتابع في خدها تقبيلاً كوقع الحصى في الماء ورهزاً كعن الرماح في مغارة الشعواء وضم الخصور وعض الخدود وركوب النهود مع حركاتٍ مصريةٍ، وغنجٍ يمانيةٍ وشهيقٍ حبشيةٍ وفتورٍ هنديةٍ وغلمةٍ نوبيةٍ وتضجر ريفيةٍ وأنين دمياطيةٍ وحرارة صعيديةٍ وفترة اسكندرانيةٍ وكانت هذه الجارية جامعةٌ لهذه الخصال مع فرط الجمال والدلال ثم نام نور الدين هو وتلك الجارية إلى الصباح في لذةٍ وانشراح.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والثلاثين بعد الثمانمائة
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 815
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 816
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين نام هو وتلك الجارية إلى الصباح في لذةٍ وانشراح لابسين حلل العنلق محكمة الأزرار آمنين طوارق الليل والنهار في الوصال كثرة القيل والقال وقد باتا على أحسن حال، ولم يخشيا أحد. فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح انتبه نور الدين من نومه فرآها أحضرت الماء فاغتسل هو وإياها وأدى ما عليه من الصلاة لربه ثم أتته بما تيسر من المأكول والمشروب فأكل وشرب ثم أدخلت الجارية يدها تحت المخدة وأخرجت الزنار الذي صنعته بالليل وناولته إياه وقالت: يا سيدي خذ هذا الزنار، فقال لها من أين هذا الزنار فقالت له: يا سيدي هو الحرير الذي اشتريته البارحة بالعشرين درهماً فقم واذهب به إلى سوق العجم وأعطه للدلال لينادي عليه ولا تبعه إلا بعشرين ديناراً سالمةً.فقال لها نور الدين: يا سيدة الملاح هل شيءٌ بعشرين درهما يباع بعشرين ديناراً يعمل في ليلةً واحدةٌ? قالت له الجارية: يا سيدي أنت ما تعرف قيمة هذا، ولكن اذهب به السوق وأعطه للدلال فإذا نادى عليه الدلال ظهرت لك قيمته. فعند ذلك أخذ نور الدين الزنار من الجارية وأتى به إلى السوق الأعاجم وأعطى الزنار للدلال وأمره أن ينادي عليه، وقعد نور الدين على مصطبة دكان فغاب الدلال عنه ساعةً ثم أتى إليه وقال له: يا سيدي قم اقبض ثمن زنارك فقد بلغ عشرين ديناراً سالمة ليدك.فلما سمع نور الدين كلام الدلال تعجب غاية العجب واهتز من الطرب وقام ليقبض العشرين ديناراً وهو ما بين مصدقٍ ومكذبٍ، فلما قبضها ذهب من ساعته واشترى بها كلها حريراً من سائر الألوان لتعمله الجارية كله زنانير ثم رجع إلى البيت وأعطاها الحرير.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والثلاثين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما اشترى بالعشرين دينار حريراً أعطاه للجارية وقال لها اعمليه كله زنانير وعلميني أيضاً حتى أعمل معك فأني طول عمري ما رأيت صنعةً أحسن من هذه الصنعة، ولا أكثر مكسباً منها قط وأنها والله أحسن من التجارة بألف مرةٍ فضحكت الجارية من كلامه وقالت له: يا سيدي نور الدين امض إلى صاحبك العطار واقترض منه ثلاثين درهماً وفي غد أدفعها له ثمن الزنار هي والخمسين درهماً التي اقترضتها منه قبلها.فقام نور الدين وأتى إلى صاحبه العطار وقال له يا عم اقرضني ثلاثين درهماً جملة وفي غد أن شاء الله تعالى أجيء لك بالثمانين درهماً جملةً واحدةً، فعند ذلك وزن له الشيخ العطار ثلاثين درهماً فأخذها نور الدين وأتى بها إلى السوق واشترى بها لحماً وخبزاً ونقلاً وفاكهةً ومشموماً كما فعل بالأمس وأتى بها إلى الجارية وكان اسم تلك الجارية مريم الزنارية فلما أخذت اللحم قامت من وقتها وساعتها وهيأت طعاماً فاخراً ووضعته قدام سيدها نور الدين ثم بعد ذلك هيأت سفرت المدام وتقدمت تشرب هي وإياه وصارت تملأ وتسقيه ويملأ ويسقيها فلما لعب المدام بعقلهما أعجبها حسن لطافته ورقة معانيه فأنشدت هذين البيتين:
أقول لاهـيف حـياً بـكـأس
لها من مسك نكهتـه خـتـام
أمن خديك تعصر قـال كـلا
متى عصرت من الورد المدام ولم تزل تلك الجارية تنادم نور الدين وينادمها وتعطيه الكأس والطاس وتطلب أن يملأ لها ويسقها ما تطيب به الأنفاس وإذا وضع يده عليها تتمنع منه دلالاً وقد زادها السكر حسناً وجمالاً فأنشد هذين البيتين:
وهيفاء تهوى الراح قالت لصبها
بمجلس أنسٍ وهو يخشى ملالها
إذا لم تدر كأس المدام وتسقنـي
أبيتك مهجور فخاف ملالـهـاولم ير إلا كذلك إلى أن غلب عليه السكر ونام فقامت هي من وقتها وساعتها وعملت شغلها في الزنار على جري عادتها ولما فرغت أصلحته ولفته في ورقة ثم نزعت ثيابها ونامت بجانبه إلى الصباح.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والثلاثين بعد الثمانمائة
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 816
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 817
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مريم الزنارية لما فرغت من شغل الزنار أصلحته ولفته في ورقة ونزعت ثيابها ونامت بجانبه إلى الصباح وكان بينهما ما كان من الوصل ثم قام نور الدين وقضى شغله وناولته الزنار وقالت له امض إلى السوق وبعه بعشرين ديناراً كما بعت نظيره بالأمس، فعند ذلك أخذه ومضى به إلى السوق وباعه بعشرين ديناراً وأتى إلى العطار ودفع له الثمانين درهماً وشكر فضله ودعا له فقال يا ولدي هل أنت بعت الجارية فقال نور الدين كيف أبيع روحي من جسدي ثم أنه حكى له الحكاية من المبتدأ إلى المنتهى وأخبره بجميع ما جرى له.ففرح الشيخ العطار بذلك فرحاً شديداً ما عليه من مزيد وقال له والله يا ولدي أنك قد أفرحتني وأن شاء الله أنت بخير دائماً فأني أود لك الخير لمحبتي لوالدك وبقاء صحبتي معه ثم أن نور الدين فارق الشيخ العطار وراح من وقته وساعته إلى السوق واشترى اللحم والفاكهة والشراب وجميع ما يحتاج إليه على جري العادة وأتى به إلى تلك الجارية ولم يزل نور الدين هو والجارية في أكلٍ وشربٍ ولعبٍ وانشراحٍ وودٍ ومنادمةٍ مدة سنةٍ كاملةٍ وهي تعمل في كل ليلةٍ زناراً ويصبح يبيعه بعشرين ديناراً ينفق منها ما يحتاج إليه والباقي يعطيه لها تحفظه عندها إلى وقت الحاجة إليه.وبعد السنة قالت له الجارية يا سيدي نور الدين إذا بعت الزنار في غد فخذ لي من حقه حريراً ملوناً ستة ألوانٍ فإنه قد خطر ببالي أن أصنع لك منديلاً تجعله على كتفك ما فرحت بمثله أولاد التجار ولا أولاد الملوك فعند ذلك خرج نور الدين إلى السوق وباع الزنار واشترى الحرير الملون كما ذكرت له الجارية وجاء به إليها فقعدت مريم الزنارية تصنع في المنديل جمعةٍ كاملةٍ لأنها كانت كلما فرغت من زنار في ليلةٍ تعمل في المنديل شيئاً إلى أن خلصته وناولته لنور الدين فجعله على كتفه وصار يمشي به في السوق فصار التجار والناس وأكابر البلد يقفون عنده صفوفاً ليتفرجوا على حسنه، وعلى ذلك المنديل وحسن صنعته فاتفق أن نور الدين كان نائماً ذات ليلة من الليالي، فانتبه من منامه فوجد جاريته تبكي بكاءً شديداً.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والثلاثين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما انتبه من منامه وجد جاريته تبكي بكاءً شديداً وتنشد هذه الأبيات:
دنا فراق الحبيب واقتربـا
وأحربا للفراق وأحربـا
تفتت مهجتي فوا أسفـي
على ليالٍ مضت لنا طربا
لا بد أن ينظر الحسود لنا
بعين سوءٍ ويبلغ الأربـا
فما علينا أضر من حسـدٍ
ومن عيون الوشاة والرقبا فقال لها نور الدين يا سيدتي مريم مالك تبكي فقالت له أبكي من ألم الفراق فقد أحس قلبي به فقال لها يا سيدة الملاح ومن الذي يفرق بيننا وأنا الآن أحب الخلق إليك وأعشقهم لك فقالت له إن عندي أضعاف ما عندك ولكن حسن الظن بالليالي يوقع الناس في الأسف فإذا كنت تحرص على عدم الفراق فخذ حذرك من رجل إفرنجي أعور العين اليمنى وأعرج الرجل الشمال وهو شيخ أغبر الوجه مكلثم اللحية لأنه هو الذي يكون سبباً لفراقنا وقد رأيته أتى في تلك المدينة وأظن أنه ما جاء إلا في طلبي فقال لها نور الدين يا سيدة الملاح أن وقع بصري عليه قتلته ومثلت به فقالت له مريم يا سيدي لا تقتله ولا تكلمه ولا تبايعه ولا تشاوره ولا تعامله ولا تجالسه ولا تماشه ولا تتحدث معه بكلامٍ قط وادع الله أن يكفينا شره ومكره.
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 817
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 818
فلما أصبح الصباح أخذ نور الدين الزنار وذهب به إلى السوق وجلس على مصطبة دكان يتحدث هو وأولاد التجار فأخذته سنة من النوم فنام على مصطبة الدكان، فبينما هو نائم وإذا بذلك الإفرنجي مر على ذلك السوق في تلك الساعة ومعه سبعةٌ من الإفرنج فرأى نور الدين نائماً على مصطبة الدكان ووجهه ملفوفٌ بذلك المنديل وطرفه في يده فقعد الإفرنجي عنده وأخذ طرف المنديل وقلبه في يده واستمر يقلب فيه ساعةً فأحس به نور الدين فأفاق من النوم فرأى الإفرنجي الذي وصفته الجارية بعينه جالساً عند رأسه فصرخ عليه نور الدين صرخةً عظيمةً أرعبته فقال له الإفرنجي لأي شيء تصرخ علينا هل نحن أخذنا منك شيئاً فقال له نور الدين والله يا ملعون لو كنت أخذت شيئاً لكنت ذهبت بك إلى الوالي فقال له الإفرنجي يا مسلم بحق دينك وما تعتقده أن تخبرني من أين هذا المنديل فقال له نور الدين هو شغل والدتي.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والثلاثين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الإفرنجي لما سأل نور الدين عن الذي عمل المنديل، قال له إن هذا المنديل شغل والدتي عملته لي بيدها فقال له الإفرنجي أتبيعه لي وتأخذ ثمنه مني فقال له نور الدين والله يا ملعون لا أبيعه لك ولا لغيرك فإنها ما عملته إلا على اسمي ولم تعمل غيره فقال له بعه لي وأنا أعطيك ثمنه في هذه الساعة خمسمائة دينارٍ ودع الذي عملته تعمل لك غيره أحسن منه فقال له نور الدين: أنا ما أبيعه أبداً لأنه لا نظير له في هذه المدنية فقال له الإفرنجي يا سيدي وهل تبيعه بستمائة دينار من الذهب الخالص ولم يزل يزيده مائةً بعد مائةٍ إلى أن أوصله إلى تسعمائة دينار.فقال له نور الدين يفتح الله علي بغير بيعةٍ أنا ما أبيعه ولا بألفي دينارٍ ولا بأكثر أبداً ولم يزل ذلك الإفرنجي يرغب نور الدين بالمال في ذلك المنديل إلى أن أوصله إلى ألف دينارٍ فقال له جماعةٌ من التجار الحاضرين نحن بعناك هذا المنديل فادفع ثمنه فقال له نور الدين أنا ما أبيعه والله فقال له تاجر من التجار أعلم يا ولدي أن هذا المنديل قيمته مائة دينارٍ أن كثرت وأن وجد له راغب وأن هذا الإفرنجي دفع فيه ألف دينار جملة فربحه تسعمائة دينارٍ فأي ربح تريد أكثر من هذا الربح فالرأي عندي أنك تبيع هذا المنديل وتأخذ الألف دينار وتقول للذي عملته لك تعمل لك غيره أو أحسن منه واربح أنت الألف دينارٍ من هذا الإفرنجي المنديل بألف دينارٍ ودفع له الثمن في الحضرة وأراد نور الدين أن ينصرف ويمضي إلى جاريته مريم ليبشرها بما كان من أمر الإفرنجي.فقال الإفرنجي يا جماعة التجار احجزوا نور الدين فإنكم وإياه ضيوفي في هذه الليلة فإن عندي خابية خمر رومي من معتق الخمر وخروفاً سميناً وفاكهةً ونقلاً ومشموماً فأنتم تؤانسوننا في هذه الليلة ولا يتأخر أحدٌ منكم فقال التاجر يا سيدي نور الدين نشتهي أن تكون معنا في مثل هذه الليلة لنتحدث وإياك فمن فضلك وإحسانك أن تكون معنا فنحن وإياك ضيوفٌ عند هذا الإفرنجي لأنه رجلٌ كريمٌ ثم أنهم حلفوا عليه بالطلاق ومنعوه بالإكراه عن الرواح إلى بيته ثم قاموا من وقتهم وساعتهم وقفلوا الدكاكين وأخذوا نور الدين معهم وراحوا مع الإفرنجي إلى قاعةٍ مطيبةٍ رحيبةٍ بلوانين فأجلسهم فيها ووضع بين أيديهم سفرة غريبة الصنع بديعة العمل فيها صورة كاسرٌ ومكسور وعاشقٌ ومعشوق وسائلٌ ومسؤول ثم وضع الإفرنجي على تلك السفرة الأواني النفيسة من الصيني والبلور وكلها مملوءة بنفائس النقل والفاكهة والمشموم.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الأربعين بعد الثمانمائة
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 818
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 819
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الإفرنجي لما وضع السفرة وعليها أواني صيني وبلور مملوءة بنفائس النقل والفاكهة والمشموم ثم قدم لهم الإفرنجي خابية ملآنة بالخمر الرومي المعتق وأمر بذبح خروف سمين ثم أن الإفرنجي أوقد النار وصار يشوي من ذلك اللحم ويطعم التجار ويسقيهم من ذلك الخمر ويغمزهم على نور الدين أن ينزلوا عليه بالشراب فلم يزالوا يسقونه حتى سكر وغاب عن وجوده فلما رآه الإفرنجي مستغرقاً في السكر قال آنست يا سيدي نور الدين في هذه الليلة فمرحبا بك وصار الإفرنجي يؤانسه بالسلام ثم تقرب منه وجلس بجانبه وسارقه في الحديث ساعةً زمانيةً.ثم قال له يا سيدي نور الدين هل تبيعني جاريتك التي اشتريتها بحضرة هؤلاء التجار بألف دينارٍ من مدة سنةٍ وأنا أعطيك في ثمنها الآن خمسة آلاف دينارٍ فأبى نور الدين ولم يزل ذلك الإفرنجي يطعمه ويسقيه ويرغبه في المال حتى أوصل الجارية إلى عشرة آلاف دينارٍ فقال نور الدين وهو في سكره قدام التجار بيعتك إياها هات عشرة آلاف دينار ففرح الإفرنجي بذلك القول فرحاً شديداً وأشهد عليه التجار وباتوا في أكلٍ وشربٍ وانشراحٍ إلى الصباح ثم صاح الإفرنجي على غلمانه وقال لهم ائتوني بالمال فأحضروا له المال فعد نور الدين العشرة آلاف دينار نقداً وقال له يا سيدي نور الدين تسلم هذا المال ثمن جاريتك التي بعتها في الليلة الماضية بحضرة هؤلاء التجار المسلمين.فقال نور الدين يا ملعون أنا ما بعتك شيئاً وأنت تكذب علي وليس عندي جوار فقال له الإفرنجي لقد بعتني جاريتك وهؤلاء التجار يشهدون عليك بالبيع فقال التجار كلهم نعم يا نور الدين أنت بعته جاريتك قدامنا ونحن نشهد عليك أنك بعته إياها بعشرة آلاف دينار ثم قم اقبض الثمن وسلم إليه الجارية والله يعوضك خيراً منها أتكره يا نور الدين أنك اشتريت جارية بألف دينار ولك سنة ونصف تتمتع بحسنها وجمالها وتتلذذ في كل ليلةٍ بمنادمتها ووصالها وبعد ذلك ربحت من هذه الجارية تسعة آلاف دينار فوق ثمنها الأصلي وفي كل يوم تعمل لك زناراً تبيعه بعشرين ديناراً.وبعد ذلك كله تنكر البيع وتستقل الربح أي ربح أكثر من هذا الربح وأي مكسبٍ أكثر من هذا المكسب فإن كنت تحبها فها أنت قد شبعت منها في هذه المدة فاقبض الثمن واشتري غيرها أحسن منها أو نزوجك بنتاً من بناتنا بمهر أقل من نصف هذا الثمن وتكون البنت أجمل منها ويصير معك باقي المال رأس مال في يدك ولم يزل التجار يتكلمون مع نور الدين بالملاطفة والمخادعة إلى أن قبض العشرة آلاف دينار ثمن الجارية وأحضر الإفرنجي من وقته وساعته القضاة والشهود فكتبوا له حجة باشتراء الجارية التي اسمها مريم الزنارية من نور الدين، هذا ما كان من أمر نور الدين.وأما ما كان من أمر مريم الزنارية فإنها قعدت تنتظر سيدها جميع ذلك اليوم إلى المغرب ومن المغرب إلى نصف الليل فلم يعد إليها سيدها فحزنت وصارت تبكي بكاءً شديداً فسمعها الشيخ العطار وهي تبكي فأرسل إليها زوجته فدخلت عليها فرأتها تبكي فقالت لها: يا سيدتي ما لك تبكين? فقالت لها: يا أمي إني قعدت انتظر مجيء سيدي نور الدين فما جاء إلى هذا الوقت وأنا خائفةٌ أن يكون أحدٌ عمل عليه حيلةً من أجلي لأجل أن يبيعني فدخلت عليه بالحيلة وباعني.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والأربعين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مريم الزنارية قالت لزوجة العطار: أنا خائفةٌ أن يكون أحدٌ عمل على سيدي حيلة من شأني لأجل أن يبيعني فدخلت عليه الحيلة وباعني فقالت لها زوجة العطار: يا سيدتي مريم لو أعطوا سيدك فيك ملء هذه القاعة ذهباً لم يبعك لما أعرفه من محبته لك ولكن يا سيدتي مريم ربما يكون جماعةً أتوا من مدينة مصر من عند والديه فعمل لهم عزومه في المحل الذي هم نازلون فيه واستحى أن يأتي بهم إلى هذا المحل لأنه لا يسعهم ولأن مرتبتهم أقل من أن يجيء بهم إلى البيت أو أحب أن يخفي أمرك عنهم فبات عندهم إلى الصباح ويأتي إن شاء الله تعالى إليك في الغد بخير فلا تحمل نفسك هماً ولا غماً يا سيدتي فهذا سبب غيابه عنك في هذه الليلة وها أنا أبيت عندك في هذه الليلة وأسليك إلى أن يأتي إليك سيدك ثم أن زوجه العطار صارت تلهي مريم وتسليها بالكلام إلى أن ذهب الليل كله.
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 819
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 820
فلما أصبح الصباح نظرت مريم سيدها نور الدين وهو داخل من الزقاق وذلك الإفرنجي وراءه وجماعة التجار حواليه فلما رأتهم مريم ارتعدت فرائصها واصفر لونها وصارت ترتعد كأنها سفينةٌ في وسط بحرٍ مع شدة الريح فلما رأتها امرأة العطار قالت لها: يا سيدتي مريم ما لي أراك قد تغير حالك واصفر لونك وازداد بك الذهول? فقالت لها الجارية: يا سيدتي والله أن قلبي قد أحس بالفراق وبعد التلاق ثم إن مريم الزنارية بكت بكاءً شديداً ما عليه من مزيد وتيقنت الفراق وقالت لزوجة العطار: يا سيدتي أما قلت لك أن سيدي نور الدين قد عملت عليه حيلةٌ من أجل بيعي فما أشك أنه باعني في هذه الليلة لهذا الإفرنجي وقد كنت حذرته منه ولكن لا ينفع حذر من قدر فقد بان لك صدق قولي فبينما هي وزوجة العطار في الكلام وإذا بسيدها نور الدين دخل عليها في تلك الساعة فنظرت إليه الجارية فرأته قد تغير لونه وارتعدت فرائصه ويلوح على وجهه أثر الحزن والندامة فقالت له: يا سيدي نور الدين كأنك بعتني، فبكى بكاءً شديداً وتاه وتنفس الصعداء، وأنشد هذه الأبيات:
هي المقادير فما يغني الـحـذر
إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر
إذا أراد اللـه أمـراً بـأمـرئ
وكان ذا عقلٍ وسمعٍ وبـصـر
أصم أذنـيه وأعـمـى عـينـه
وسل منه عقله سل الـشـعـر
حتى إذا أنفـذ فـيه حـكـمـه
رد إليه عقـلـه لـيعـتـبـر
فلا تقل فيما جرى كيف جـرى
فكل شيءٍ بـقـضـاء وقـدرثم أن نور الدين اعتذر إلى الجارية وقال لها: والله يا سيدتي مريم أنه قد جرى القلم بما حكم الله، والناس قد عملوا علي حيلةً من أجل بيعك فدخلت علي الحيلة فبعتك وقد فرطت فيك أعظم تفريطٍ ولكن عسى من حكم بالفراق أن يمن بالتلاق، فقالت له: قد حذرتك من هذا وكان في وهمي، ثم ضمته إلى صدرها وقبلته ما بين عينيه.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والأربعين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما ضمت نور الدين وقبلته ما بين عينيه أنشدت هذه الأبيات:
وحق سواكم ما سلوت ودادكـم
ولو تلفت روحي هوىً وتشوقا
أنوح وأبكـي كـل يومٍ ولـيلةٍ
كما ناح قمري على شجر النقا
تنغص عيشي بعدكم يا أحبتـي
متى غبتم عني فما لي ملتقـىفبينما هي على هذه الحالة وإذا بالإفرنجي قد طلع عليهما وتقدم ليقبل أيادي السيدة مريم فلطمته بكفها على خده وقالت له: ابعد يا ملعون فما زلت ورائي حتى خدعت سيدي ولكن يا ملعون إن شاء الله تعالى لا يكون الأخير، فضحك الإفرنجي من قولها وتعجب من فعلها واعتذر إليها وقال لها: يا سيدتي مريم أي شيءٍ ذنبي أنا وإنما سيدك نور الدين هذا هو الذي باعك برضا نفسه وطيب خاطره وأنه وحق المسيح لو كان يحبك ما فرط فيك ولولا أنه فرغ غرضه منك ما باعك.وكانت هذه الجارية بنت ملك إفرنجة وهي مدينةٌ واسعة الجهات كثيرة الصنائع والغرائب والبنات تشبه مدينة القسطنطينية وقد كان لنزوح تلك الجارية من عند أبيها وأمها سبباً عجيبا وأمراً غريباً وذلك أنها تربت عند أبيها وأمها في العز والدلال وتعلمت الفصاحة والكتابة والفروسية والشجاعة وتعلمت جميع الصنائع مثل الزركشة والخياطة والحياكة وصنعة الزنار والعقادة ورمي الذهب على الفضة والفضة على الذهب وتعلمت جميع صنائع الرجال والنساء حتى صارت فريدة زمانها ووحيدة عصرها وأوانها، وقد أعطاها الله من الحسن والجمال والظرف والكمال ما فاقت به على جميع أهل عصرها فخطبها ملوك الجزائر من أبيها وكان كل من خطبها منه يأبى أن يزوجها له لأنه كان يحبها حباً عظيماً ولا يقدر على فراقها ساعةً واحدةً ولم يكن عنده بنتٌ غيرها وكان له من الأولاد الذكور كثير ولكنه كان مشغوفاً بحبها أكثر منهم، فاتفق أنها مرضت بعض السنين مرضاً شديداً حتى أشرفت على الهلاك.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والأربعين بعد الثمانمائة
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 820
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 821
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مريم مرضت مرضاً شديداً حتى أشرفت على الهلاك فنذرت على نفسها أنها إذا عوفيت من هذا المرض تزور الدير الفلاني في الجزيرة الفلانية وكان ذلك الدير معظماً عندهم وينذرون له النذور ويتبركون به، فلما عوفيت مريم من مرضها أرادت أن توفي نذرها الذي نذرته على نفسها لذلك الدير فأرسلها والدها ملك الإفرنجة إلى تلك الدير في مركبٍ صغيرٍ وأرسل معها بعضٌ من بنات أكابر المدينة ومن البطارقة لأجل خدمتها.فلما قربت من الدير استقلت مركباً من مراكب المسلمين والمجاهدين في سبيل الله فأخذوا جميع ما في المركب من البطارقة والبنات والأموال والتحف فباعوا ما أخذوه في مدينة القيروان فوقعت مريم في يد رجلٍ أعجمي تاجرٍ من التجار وقد كان ذلك الأعجمي عنيناً لا يأتي النساء ولم تنكشف له عورةٌ على امرأة فجعلها للخدمة.ثم أن ذلك الأعجمي مرض مرضاً شديداً حتى أشرف على الهلاك وطال عليه المرض مدة شهورٍ فخدمته مريم وبالغت في خدمته إلى أن عافاه الله من مرضه فتذكر ذلك الأعجمي منها الشفقة والحنية عليه والقيام بخدمته فأراد أن يكافئها على ما فعلته معه من الجميل فقال لها: تمني يا مريم فقالت: يا سيدي تمنيت عليك أن لا تبيعني إلا لمن أريده وأحبه، فقال لها: نعم لك على ذلك يا مريم ما أبيعك إلا لمن تريدينه وقد جعلت بيعك بيدك ففرحت فرحاً شديداً، وكان الأعجمي قد عرض عليها الإسلام فأسلمت وعلمها العبادات فتعلمت من ذلك الأعجمي في تلك المدة أمر دينها وما وجب عليها وحفظها القرآن وما تيسر من العلوم الفقهية والأحاديث النبوية، فلما دخل بها مدينة إسكندرية باعها لمن أرادته وجعل بيعها بيدها كما ذكرنا فأخذها علي نور الدين كما أخبرنا، هذا سبب خروجها من بلادها.وأما ما كان من أمر أبيها ملك إفرنجة فإنه لما بلغه أمر ابنته ومن معها قامت عليه القيامة وأرسل خلفها المراكب وصحبتهم البطارقة والفرسان والرجال الأبطال فلم يقعوا لها على خبر بعد التفتيش في جزائر المسلمين ورجعوا إلى أبيها بالويل والثبور وعظائم الأمور.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والأربعين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مريم لما فقدت أرسل أبيها خلفها الرجال والأبطال فلم يقعوا لها على خبر بعد التفتيش عليها فحزن أبوها حزناً شديداً فأرسل وراءها ذلك الأعور اليمين والأعرج الشمال لأنه كان أعظم وزرائه وكان جباراً عنيداً ذو حيلٍ وخداعٍ وأمره أن يفتش عليها في جميع بلاد المسلمين ويشتريها ولو بملء مركبٍ ذهباً، ففتش عليها ذلك الملعون في جزائر البحار وسائر المدن فلم يقع لها على خبر إلى أن وصل إلى مدينة إسكندرية وسأل عنها فوقع على خبرها عند نور الدين المصري فجرى له ما جرى وعمل عليه حيلةً حتى اشتراها منه كما ذكرنا بعد الاستدلال عليها بالمنديل الذي لا يحسن صنعته غيرها.وكان قد وصى التجار واتفق على خلاصها بالحيلة، فلما صارت عنده مكثت في بكاءٍ وعويلٍ فقال لها: يا سيدتي مريم خلي عنك هذا الحزن والبكاء وقومي معي إلى مدينة أبيك ومحل مملكتك ومنزل عزك ووطنك لتكوني بين خدمك وغلمانك واتركي هذا الذل وهذه الغربة ويكفي ما حصل لي من التعب والسفر من أجلك وصرف أموالٍ، فإن لي في التعب والسفر نحو سنة ونصف وقد أمرني والدك أن أشتريك ولو بملء مركب ذهباً ثم إن وزير ملك إفرنجة صار يقبل قدميها ويتخضع لها ولم يزل يكرر تقبيل يديها وقدميها ويزداد غضبها عليه كلما فعل ذلك أدباً معها وقالت له: يا ملعون إن شاء الله تعالى لا يبلغك ما في مرادك.ثم قدم إليها الغلمان في تلك الساعة بغلةً بسرجٍ مزركشٍ وأركبوها عليه ورفعوا فوق رأسها سحابة من حريرٍ بعواميدٍ من ذهب وفضة وصار الإفرنج يمشون حولها حتى طلعوا بها من باب البحر وأنزلوها فيها فعند ذلك نهض الوزير الأعور وقال لبحرية المركب: ارفعوا الصاري فرفعوه من وقتهم وساعتهم ونشروا القلوع والأعلام ونشروا القطن والكتان وعملوا المقاذيف وسافرت بهم تلك المركب هذا كله ومريم تنظر إلى ناحية إسكندرية حتى غابت عن عينها فصارت تبكي في سرها بكاءً شديداً.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والأربعين بعد الثمانمائة
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 821
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 822
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مريم الزنارية صارت تنظر إلى ناحية إسكندرية حتى غابت عن عينيها فبكت وانتحبت وسكبت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
أيا منزل الأحباب هل لك عـودةٌ
إلينا وما حلمي بما الله صـانـع
فسارت بنا سفن الفراق وأسرعت
وطرف قريح قد محته المدامـع
لفرقة خلٍ كان غاية مقـصـدي
به يشتفي سقمي وتمحى المواجع
إلا يا إلهي كن عليه خلـيفـتـي
فعنـد يومٍ لا تـضـيع الـودائعولم تزل كلما تذكرته تبكي وتنوح فأقبل عليها البطارقة يلاطفونها فلم تقبل منهم كلاماً بل شغلها داعي الوجد والغرام، ثم أنها بكت وأنّت واشتكت وأنشدت هذه الأبيات:
لسان الهوى في مهجتي لك ناطقٌ
يخبر عني أنني لـك عـاشـقٌ
ولي كبد جمر الهوى قد أذابـهـا
وقلبي جريحٌ من فراقك خافـق
وكم أكتم الحب الذي قد أذابـنـي
فجفني قريح والدموع سـوابـقولم تزل مريم على هذه الحالة لا يقر لها قرار ولا يطاوعها اصطبار مدة سفرها، هذا ما كان من أمرها هي والوزير الأعور.وأما ما كان من أمر نور الدين علي المصري ابن تاج الدين فإنه بعد نزول مريم المركب وسفرها ضاقت عليه الدنيا وصار لا يقر له قراراً ولا يطاوعه اصطبار فتوجه إلى القاعة التي كان مقيماً بها هو ومريم، فرآه في وجهه سوداء مظلمة ورأى العدة التي كانت تشتغل عليها الزنانير وثيابها التي كانت على جسدها فضمها إلى صدره وبكى وفاضت من جفنه العبرات، وأنشد هذه الأبيات
ترى هل يعود الشمل بعد تشتتـي
وبعد توالي حسرتي وتلـفـتـي
فهيهات ما قد كان ليس بـراجـعٍ
فيا هل ترى أحظى بوصل حبيبتي
ويا هل ترى قد يجمع الله شملنـا
وتذكر أحبابي وعهود مـودتـي
ويحفظ ودي من بجهلي أضعـتـه
ويرعى عهودي ثم سالف صحبتي
فما أنا إلا ميت بعـد بـعـدهـم
وهل ترتضي الأحباب يوماً منيتي
فيا أسفي إن كان يجد تـأسـفـي
لقد ذبت وجداً من تزايد حسراتي
وضاع زمانٌ كان فيه تواصـلـي
فيا هل ترى دهري يجود بمنيتـي
فيا قلب زد وجداً ويا عين اهملـي
دموعاً ولا تبقى الدموع بمقلتـي
ويا بعد أحبابي وفقد تـصـبـري
وقد قل أنصاري وزادت بلـيتـي
سألت الله رب العالمين يجود لـي
بعود حبيبي والوصال كعـادتـيثم أن نور الدين بكى بكاءً شديداً ما عليه من مزيد، ونظر إلى زوايا القاعة وأنشد هذين البيتين:
أرى آثارهم فأذوب شـوقـاً
وأجري في مواطنهم دموعي
وأسأل من قضى بالبعد عنهم
يمن علي يوماً بالـرجـوعثم أن نور الدين نهض من وقته وساعته وقفل باب الدار وخرج يجري إلى البحر وصار يتأمل في موضع المركب التي سافرت بمريم.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والأربعين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما خرج يجري إلى البحر صار يتأمل في موضع المركب التي سافرت بمريم ثم بكى وصعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
سلامٌ عليك ليس لي عنكـم غـنـى
وإني على الحالين في القرب والبعد
أحن إلـيكـم كـل وقـتٍ وسـاعةٍ
واشتاقكم شوق العطاش إلى الورد
وعندكم سمعي ولبـي ونـاظـري
وتذكاركم عندي ألذ من الـشـهـد
فيا أسفي لما استقلـت ركـابـكـم
وحادت بكم تلك السفينة عن قصـدثم أن نور الدين ناح وبكى وأن واشتكى ونادى: يا مريم، يا مريم هل كانت رؤيتي لك في المنام أم أضغاث أحلام فبينما نور الدين على هذه الحالة يبكي ويقول: يا مريم، يا مريم وإذا بشيخٍ قد طلع من مركبٍ وأقبل عليه فرآه يبكي وينشد هذين البيتين:
يا مريم الحسن عودي أن لي مقلا
سحائب المزن تجري من سواكبها
واستخبري عذلي دون الآنام تـري
أجفان عيني غرقى في كواكبهـا
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 822
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 823
فقال الشيخ: يا ولدي كأنك تبكي على الجارية التي سافرت البارحة مع الإفرنجي فلما سمع نور الدين كلام الشيخ خر مغشياً عليه ساعةً زمانيةً، ثم أفاق وبكى بكاءً شديداً ما عليه من مزيد وأنشد هذه الأبيات:
فهل بعد هذا البعد يرجى وصالـهـا
ولذة أنسي قد يعـود كـمـالـهـا
فإن في قلـبـي لـوعةً وصـبـابةً
ويزعجني قبل الوشاة وقـال لـهـا
أقيم نهـاري بـاهـتـاً مـتـحـيراً
وفي الليل أرجو أن يزور خيالـهـا
فو الله لا أسلو عن العشـق سـاعةً
وكيف ونفسي في الوشاة ملالـهـا
منعمة الأطراف مهضومة الحـشـا
لها مقلةٌ في القلب مني نبـالـهـا
يحاكي قضيب البان في الروض قدها
ويخجل ضوء الشمس حسناً جمالهـا
ولولا أخاف الـلـه جـل جـلالـه
لقلت لذات الحسن جل جـلالـهـافلما نظر ذلك الشيخ إلى نور الدين ورأى جماله وقده واعتداله وفصاحة لسانه ولطف اقتنائه حزن قلبه عليه ورق لحاله وكان ذلك الشيخ رئيس مركب مسافرة إلى مدينة تلك الجارية وفيها مائة تاجرٍ من تجار المسلمين المؤمنين فقال له: اصبر ولا يكون إلا خيراً فإن شاء الله سبحانه وتعالى أوصلك إليها.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والأربعين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشيخ الريس لما قال لنور الدين: أنا أوصلك إليها إن شاء الله تعالى قال له نور الدين: متى السفر? قال الريس: بعد ثلاثة أيامٍ تسافر في خير وسلامةٍ فلما سمع نور الدين كلام الريس فرح فرحاً شديداً وشكر فضله وإحسانه ثم إن نور الدين طلع من وقته وساعته وتوجه إلى السوق وأخذ منه جميع ما يحتاج إليه من الزاد وأدوات السفر وأقبل على ذلك الريس.فلما رآه قال: يا ولدي ما هذا الذي معك? قال: زوادتي وما أحتاج إليه في السفر فضحك الريس من كلامه وقال له: يا ولدي هل أنت رائحٌ تتفرج على عمود السوارتي إن بينك وبين مقصدك مسيرة شهرين إذا طاب الريح وصفت الأوقات ثم أن ذلك الشيخ أخذ من نور الدين شيئاً من الدراهم وطلع إلى السوق واشترى له جميع ما يحتاج إليه في السفر على قدر كفايته وملأ له خابية ماء حلوٍ ثم أقام نور الدين في المركب ثلاثة أيام إلى أن تجهز التجار وقضوا مصالحهم ونزلوا في المركب ثم حل الريس قلوعها وساروا مدة إحدى وخمسين يوماً.وبعد ذلك خرج عليهم القرصان قطاع الطريق فنهبوا المركب وأسروا جميع من فيها وأتوا بهم إلى مدينة إفرنجة وعرضوهم على الملك وكان نور الدين من جملتهم فأمر الملك بحبسهم، وفي وقت نزولهم من عند الملك إلى الحبس وصل الغراب الذي فيه الملكة مريم الزنارية مع الوزير الأعور فلما وصل الغراب إلى المدينة طلع الوزير إلى الملك وبشره بوصول ابنته مريم الزنارية سالمةً فدقوا البشائر وزينوا المدينة بأحسن زينةٍ وركب الملك في جميع عسكره وأرباب دولته وتوجهوا إلى البحر ليقابلوها فلما وصلت المركب طلعت ابنته مريم فعانقها وسلم عليها وسلمت عليه وقدم لها جواداً فركبته فلما وصلت إلى القصر قابلتها أمها وعانقتها وسلمت عليها وسلمت عليها وسألتها عن حالها وهل هي بكر مثل ما كانت عندهم سابقاً أم صارت امرأةً ثيباً.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والأربعين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أم مريم لما سألتها عن حالها وهل هي ثيباً أم بكر فقالت لها مريم: يا أمي بعد أن يباع الإنسان في بلاد المسلمين من تاجرٍ إلى تاجرٍ يصير محكوماً عليه كيف يبقى بنتاً بكراً? إن التاجر الذي اشتراني هددني بالضرب واكرهني وأزال بكارتي وباعني لآخر وآخر باعني لآخر. فلما سمعت أمها منها ذلك الكلام صار الضياء في وجهها ظلاماً ثم أعادت على أبيها هذا الكلام فصعب ذلك عليه وعظم أمر حاله به وعرض حالها على أرباب دولته وبطارقته فقالوا له: أيها الملك إنها تنجست من المسلمين وما يطهرها إلا ضرب مائة رقبةٍ من المسلمين.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والأربعين بعد الثمانمائة
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 823
ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 824
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الرهبان قالوا: ما يطهرها إلا ضرب مائة رقبةٍ من المسلمين فعند ذلك أمر بإحضار الأسارى الذين في الحبس فأحضروهم جميعاً بين يديه ومن جملتهم نور الدين فأمر الملك بضرب رقابهم فأول من ضربوا رقبته ريس المركب ثم ضربوا رقاب التجار واحداً بعد واحدٍ حتى لم يبق إلا نور الدين فشرطوا ذيله وعصبوا عينيه وقدموه إلى نطع الدم وأرادوا أن يضربوا رقبته وإذا بامرأةٍ عجوزٍ أقبلت على الملك في تلك الساعة وقالت له: يا مولاي أنت كنت نذرت لكل كنيسةٍ خمسة أسارى من المسلمين إن رد الله بنتك مريم لأجل أن تساعدوا في خدمتها والآن قد وصلت إليك ابنتك السيدة مريم فأوف بنذرك الذي نذرته، فقال لها الملك: يا أمي وحق المسيح والدين الصحيح لم يبق عندي من الأسارى غير هذا الأسير الذي يريدون قتله فخذيه معك يساعدك في خدمة الكنيسة إلى أن يأتي إلينا أسارى من المسلمين فأرسل إليك أربعةً أخر ولو كنت سبقت قبل أن يضربوا رقاب هؤلاء الأسارى لأعطيناك كل ما تريدينه فشكرت العجوز صنيع الملك ودعت له بدوام العز والبقاء والنعم ثم تقدمت العجوز من وقتها وساعتها إلى نور الدين وأخرجته من نطع الدم ونظرت إليه فرأته شاباً لطيفاً ظريفاً رقيق البشرة ووجهه كأنه البدر إذا بدر في ليلة أربعة عشر فأخذته ومضت به إلى الكنيسة وقالت له: يا ولدي أقلع ثيابك التي عليك فأنها لا تصلح إلا لخدمة السلطان.ثم أن العجوز جاءت لنور الدين بجبةٍ من صوفٍ أسودٍ ومئزرٍ من صوفٍ أسودٍ وسيرٍ عريضٍ فألبسته تلك الجبة وعممته بالمئزر وشدت وسطه بالسير وأمرته أن يخدم الكنيسة مدة سبعة أيامٍ فبينما هو كذلك وإذا بتلك العجوز قد أقبلت عليه وقالت له: يا معلم خذ ثيابك الحرير وألبسها وخذ هذه العشرة دراهم وأخرج في هذه الساعة تفرج في هذا اليوم ولا تقف هنا ساعةً واحدةً لئلا تروح روحك فقال لها نور الدين: يا أمي أي شيءٍ الخبر? فقالت له العجوز: اعلم يا ولدي إن بنت الملك السيدة مريم الزنارية تريد أن تدخل الكنيسة في هذا الوقت لأجل أن تزورها وتتبرك بها وتقرب لها قرباناً حلاوة السلامة بسبب خلاصها من المسلمين وتوفي لها النذور التي نذرتها أن نجاها المسيح ومعها أربعمائة بنت ما واحدة منهن إلا كاملة في الحسن والجمال ومن جملتهن بنت الوزير وبنات الأمراء وأرباب الدولة وفي هذه الساعة يحضرون وربما يقع نظرهن عليك في هذه الكنيسة فيقطعنك بالسيوف فعند ذلك أخذ نور الدين من العجوز العشرة دراهم بعد أن لبس ثيابه وخرج إلى السوق وصار يتفرج في شوارع المدينة حتى عرف جهاتها وأبوابها.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخمسين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما لبس ثيابه أخذ العشرة دراهم من العجوز ثم خرج إلى السوق وغاب ساعة حتى عرف جهات المدينة ثم رجع إلى الكنيسة فرأى مريم الزنارية بنت ملك إفرنجة قد أقبلت على الكنيسة ومعها أربعمائة بنتٍ نهداً أبكارٌ كأنهن الأقمار ومن جملتهن بنت الوزير الأعور وبنات الأمراء وأرباب الدولة وهي تمشي بينهن كأنها القمر بين النجوم، فلما وقع نظر نور الدين عليها لم يتمالك نفسه بل صرخ من صميم قلبه وقال: يا مريم، يا مريم.فلما سمعن البنات صياح نور الدين وهو ينادي يا مريم هجمن عليه وجردن بيض الصفاح مثل الصواعق وأردن قتله في تلك الساعة فالتفتت إليه مريم وتأملته فعرفته غاية المعرفة فقالت للبنات: اتركن هذا الشاب فإنه مجنون بلا شك لأن علامة الجنون لائحةٌ على وجهه فلما سمع نور الدين من السيدة مريم هذا الكلام كشف رأسه وحملق عينيه وأشاح بيديه وعوج رجليه وأخرج الزبد من فيه وشدقيه فقالت لهن السيدة مريم: أما قلت لكّن إن هذا مجنون أحضرن به ابعدن عنه حتى أسمع ما يقول فإني أعرف كلام العرب وأنظر حاله وهل داء جنونه يقبل المداواة أم لا، فعند ذلك حملنه البنات وجئن به بين يديها ثم بعدن عنه فقالت له: هل جئت إلى هنا من أجلي وخاطرت بنفسك وعملت نفسك مجنوناً? فقال لها نور الدين يا سيدتي أما سمعت قول الشاعر:
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم
ما لذة العيش إلا للمـجـانـين
هاتوا جنوني وهاتوا من جننت به
فإن وفي بجنوني لا تلومونـي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق