السبت، 6 فبراير 2010

156


فقالت له مريم: والله يا نور الدين أنك الجاني على نفسك فإني حذرتك من هذا قبل وقوعه فلم تقبل قولي وتبعت هوى نفسك وأنا ما أخبرتك لا من باب الكشف ولا من باب الفراسة ولا من باب الرؤية في المنام وإنما هو من باب المشاهدة والعيان لأني رأيت الوزير الأعور فعرفت أنه ما دخل في هذه البلدة إلا في طلبي فقال لها نور الدين: يا سيدتي مريم نعوذ بالله من إزالة العقل ثم تزايد بنور الدين الحال فأنشد هذا القول:
هب لي بجناية من أزلت به القدم
قد يشمل العبد من ساداته كـرم
حسب المسيء بذنبٍ من جنايتـه
فرط الندامة إذ لا ينفع الـنـدم
فعلت ما يقتضي التأديب معترفاً
فأين ما يقتضيه العفو والكـرمولم يزل نور الدين هو والسيدة مريم الزنارية في عتابٍ يطول شرحه وكل منهما يحكي لصاحبه ما جرى له وينشدان الأشعار ودموعهما تجري على خدودهما شبه البحار ويشكوان لبعضهما شدة الهوى وأليم الوحدة والجوى ولم يبق لأحدهما قوةً على الكلام.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والخمسين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين والسيدة مريم شكا لبعضهما ما جرى لهما عند فراقهما وما هما عليه من شدة الهوى إلى أن لم يبق لأحدهما قوةٌ على الكلام وكان النهار قد ولى وأقبل الظلام وكان على السيدة مريم حلةً خضراء مزركشةٌ بالذهب الأحمر مرصعةٌ بالدر والجوهر فزاد حسنها وجمالها وظرف معانيها فعند ذلك أقبلت السيدة مريم على البنات وقالت لهن: هل أغلقتن الباب? فقلن لها: قد أغلقناه فعند ذلك أخذت السيدة مريم البنات وأتت بهن إلى مكان يقال له مكان السيدة مريم العذراء أم النور لأن النصارى يزعمون أن روحانيتها وسرها في ذلك المكان فصار البنات يتبركن به ويطفن في الكنيسة كلها.ولما فرغن من زيارتها التفتت السيدة مريم إليهن وقالت لهن: إني أريد أن أدخل وحدي في هذه الكنيسة وأتبرك بها فإنه حصل لي اشتياقٌ إليها بسبب طول غيبتي في بلاد المسلمين وأما أنتن فحيث فرغتن من الزيارة فنمن حيث شئتن فقلن لها: حباً وكرامةً افعلي أنت ما تريدينه ثم أنهن تفرقن عنها في الكنيسة ونمن فعند ذلك استغفلتهن مريم وقامت تفتش على نور الدين فرأته في ناحيةٍ جالساً على مقالي الجمر وهو في انتظارها فلما أقبلت عليه قام لها على قدميه وقبل يديها فجلست وأجلسته في جانبها ثم نزعت ما كان عليها من الحلي والحلل ونفيس القماش وضمت نور الدين إلى صدرها وجعلته في حضنها ولم تزل هي وإياه في بوس وعناق ونغمات خاق باق وهما يقولان ما قصر ليل التلاقي وما أطول يوم الفراق، وينشدان قول الشاعر:
يا ليل الوصل وبكـر الـدهـر
لانت غرة اللـيالـي الـغـر
فجاءتني بالصبح وقت العصـر
هل كنت كحلاً في عيون الفجر وقول آخر:
أو كنت نوماً في عيوني رمد
يا لليلة الهجر وما أطولهـا
آخرها مـواصـلٌ أولـهـا
كحلقةٍ مفرغةٍ ما أن لهـاوقول آخر:
من طرف والحشر أيضاً قبلها
فالصب بعد البعث ميت الصد فبينما هما في هذه اللذة العظيمة والفرحة العميمة وإذا بغلامٍ من الغلمان النفيسة يضرب فوق سطح الكنيسة، ليقيم من عاداتهم الشعائر، وهو كما قال الشاعر:
رأيته يضرب النـاقـوس قـلـت لـه
من علم الظبي ضرباً بـالـنـواقـيس
وقلت للنفس أي الضرب أحسـن هـل
ضرب النواقيس أم ضرب النوى قيسي وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والخمسين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مريم الزنارية ما زالت هي ونور الدين في لذةٍ وطربٍ إلى أن طلع الغلام النواقيسي فوق سطح الكنيسة وضرب الناقوس فقامت من وقتها وساعتها ولبست ثيابها وحليها فشق ذلك على نور الدين وتكدر وقته فبكى وسكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:
لا زلت ألثم ورد خـذ غـضٍ
وأعض ذاك مبالغاً في العض
حتى إذا طبنا ونام رقـيبـنـا
وعيونه مالت لنحو الغمـض
ضربت نواقيسٌ تنبه أهلـهـا
كمؤذن يدعو صلاة الفـرض

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 825

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 826
قامت على عجلٍ للبس ثيابهـا
من خوف نجمٍ رقيبنا المنقض
وتقول يا سؤلي ويا كل المنـى
جاء الصباح بوجهه المبـيض
أقسمت لو أعطـيت يوم ولايةٍ
وبقيت سلطاناً شديد القـبـض
لهدمت أركان الكنائس كلـهـا
وقتلت كل مقسسٍ في الأرض ثم أن السيدة مريم ضمت نور الدين إلى صدرها وقبلت خده وقالت له: يا نور الدين كم يوماً لك في هذه المدينة? فقال: سبعة أيامٍ فقالت له: هل سرت في هذه المدينة وعرفت طرقها ومخارزها وأبوابها التي من ناحية البر والبحر? قال نعم، فقال: وهل تعرف طريق صندوق النذر الذي في الكنيسة? قال نعم، قالت له: حيث تعرف ذلك كله إذا كانت الليلة القابلة ومضى ثلث الليل الأول فاذهب في تلك الساعة إلى صندوق النذر وخذ منه ما تريد وتشتهي وافتح باب الكنيسة الذي فيه الخوخة التي توصل إلى البحر فإنك تجد سفينةً صغيرة فيها عشرة رجال بحرية فمتى رآك الريس يمد يديه إليك فناوله يدك فإنه يطلعك في السفينة فاقعد عنده حتى أجيء إليك، والحذر ثم الحذر من أن يلحقك النوم في تلك المدينة فتندم حيث لا ينفعك الندم.ثم أن السيدة مريم ودعت نور الدين وخرجت من عنده في تلك الساعة ونبهت جواريها وسائر البنات من نومهن وأخذتهن وأتت إلى باب الكنيسة ودقته ففتحت العجوز الباب فلما أطلت منه رأت الخدام والبطارقة وقوفاً فقدموا لها بغلةً فركبتها وأرخوا عليها ناموسيةً من الحرير وأخذ البطارقة بزمام البغلة ووراءها البنات واحتاط بها الجاويشية وبأيديهم السيوف مسلولةً وساروا بها إلى أن وصلوا إلى قصر أبيها.هذا ما كان من أمر مريم الزنارية. وأما ما كان من أمر نور الدين فإنه لم يزل مختفياً وراء الستارة التي كان مستترا خلفها هو ومريم إلى أن طلع النهار وانفتح باب الكنيسة وكثر الناس فيها فاختلط بالناس وجاء إلى تلك العجوز قيمة الكنيسة فقالت له: أين كنت راقداً في هذه الليلة? قال: في محل داخل المدينة كما أمرتيني، فقالت العجوز: إنك فعلت الصواب يا ولدي ولو كنت بت الليلة في الكنيسة كانت قتلتك أقبح قتلة.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والخمسين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز قالت لنور الدين: لو كنت بت الليلة في الكنيسة كانت قتلتك أقبح قتله، فقال لها نور الدين: الحمد لله الذي نجاني شر من هذه الليلة، ولم يزل نور الدين يقضي شغلة في الكنيسة إلى أن مضى النهار وأقبل الليل بدياجي الإعتكار فقام نور الدين وفتح صندوق النذر فتناول منه ما خف حمله وغلا ثمنه من الجواهر، ثم صبر إلى أن مضى ثلث الليل الأول وقام ومشى إلى باب الخوخة التي توصل إلى البحر وهو يطلب الستر من الله.ولم يزل يمشي إلى أن وصل إلى الباب وفتحه وخرج من تلك الخوخة إلى البحر فوجد السفينة رأسيةً على شاطئ البحر بجوار الباب ووجد الريس شيخاً كبيراً طريفاً لحيته طويلةٌ وهو واقفٌ في وسطها على رجليه والعشرة رجالٍ واقفون قدامه فناوله نور الدين يده كما أمرته مريم فأخذه من يده وجذبه فصار في وسطه السفينة.

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 826

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 827
فعند ذلك صاح الشيخ الريس على البحرية وقال لهم: أقلعوا مرساة السفينة من البر وعوموا بنا قبل أن يطلع النهار فقال واحدٌ من العشرة البحرية: يا سيدي كيف نعوم والملك أخبرنا أنه في غد يركب السفينة في هذا البحر ليطلع على ما فيه لأنه خائفٌ على ابنته مريم من سراق المسلمين? فصاح عليهم الريس وقال لهم: ويلكم يا ملاعين هل بلغ من أمركم أنكم تخالفونني وتردون كلامي? ثم أن الريس سل سيفه من غمده وضرب به ذلك المتكلم على عنقه فخرج السيف يلمع من رقبته فقال واحدٌ: وأي شيءٍ عمل صاحبنا من الذنوب حتى تضرب رقبته? فمد يده إلى السيف وضرب به عنق هذا المتكلم، ولم يزل ذلك الريس يضرب أعناق البحرية واحداً بعد واحدٍ حتى قتل العشرة ورماهم على شاطئ البحر، ثم التفت إلى نور الدين وصاح عليه صيحةً عظيمةً أرعبته وقال له: انزل أقلع الوتد فخاف نور الدين من ضرب السيف ونهض قائماً ووثب إلى البر وقلع الوتد ثم طلع في السفينة أسرع من البرق الخاطف وصار الريس يقول: افعل كذا وكذا ودور كذا وكذا وانظر في النجوم ونور الدين يفعل جميع ما يأمره به الريس وقلبه خائفٌ مرعوبٌ، ثم رفع شراع المركب وسار به في البحر العجاج المتلاطم الأمواج.
وفي الليلة الرابعة والخمسين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشيخ الريس لما رفع شراع المركب توجه بالمركب هو ونور الدين في البحر العجاج وقد طاب لهما الريح كل ذلك ونور الدين ماسكٌ بيده الراجع وهو غريقٌ في بحر الأفكار، ولم يزل مستغرقاً في الفكر ولم يعلم بما هو مخبوء له في الغيب وكلما نظر إلى الريس بل صار مشغولاً في فكرٍ ووسواسٍ إلى أن أضحى النهار.فعند ذلك نظر نور الدين إلى الريس فرآه قد أخذ لحيته الطويلة بيده وجذبها فطلعت من موضعها في يده وتأملها نور الدين فوجدها لحيةً كانت ملصقةً زوراً، ثم تأمل نور الدين في ذات الريس ودقق في نظره فرآها السيدة مريم معشوقته ومحبوبة قلبه وكانت قد تحيلت بتلك الحيلة حتى قتلت الريس وسلخت وجهه بلحيته وأخذت جلده وركبته على وجهها.فتعجب نور الدين من فعلها وشجاعتها ومن قوة قلبها وطار قلبه من الفرح واتسع صدره وانشرح وقال لها: مرحباً يا منيتي وسؤلي وغاية مطلبي، وكانت السيدة مريم قوية القلب تعرف بأحوال سير المراكب في البحر المالح وتعرف الأهواء واختلافها وتعرف جميع طرق البحر، فقال لها نور الدين: والله يا سيدتي لو أطلت علي هذا الأمر لمت من شدة الخوف والفزع وخصوصاً من نور الوجد والإشتياق وأليم عذاب الفراق، فضحكت من كلامه وقامت من وقتها وساعتها وأحضرت شيئاً من المأكول والمشروب فأكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا.وبعد ذلك أحضرت من اليواقيت والجواهر وأصناف المعادن والذخائر الغالية وأنواع الذهب والفضة ما خف حمله وغلا ثمنه من الذي جاءت به وجلبته من قصر أبيها وخزائنه وعرضت ذلك على نور الدين ففرح به غاية الفرح، كل ذلك والريح معتدلٌ والمركب سائرٌ ولم يزالوا سائرين حتى أشرفوا على مدينة إسكندرية وشاهدوا أعلامها القديمة والجديدة وشاهدوا عمود السواري، فلما وصلوا إلى الميناء طلع نور الدين من وقته وساعته على تلك السفينة وربطها في حجر من أحجار القصارين وجلب معه شيئاً من الذخائر التي جاءت بها الجارية معها وقال للسيدة مريم: اقعدي يا سيدتي في السفينة حتى أطلع لك إلى إسكندرية مثل ما أحب وأشتهي فقالت له: ولكن ينبغي أن يكون ذلك بسرعةٍ لأن التراخي في الأمور يورث الندامة فقال لها: ما عندي تراخٍ، فقعدت مريم في السفينة وتوجه نور الدين إلى بيت العطار صاحب أبيه ليستعير لها من زوجته نقاباً وخبرة وخفاً وأزراراً كعادة نساء إسكندرية ولم يعلم بما لم يكن له في حسابٍ من تصرفات الدهر صاحب العجب العجاب. هذا ما كان من أمر نور الدين ومريم الزنارية.

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 827

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 828
وأما من كان من أمر أبيها ملك إفرنجة فأنه لما أصبح الصباح تفقد ابنته مريم فلم يجدها فسأل عنها عند جواريها وخدمها فقالوا له: يا مولانا إنها رحلت بالليل وراحت إلى الكنيسة وبعد ذلك لم نعرف عنها شيئاً، فبينما الملك يتحدث مع الجواري والخدم في تلك الساعة وإذا بصرختين عظيمتين تحت القصر دوى لهما المكان، فقال الملك: ما الخبر? فقالوا له: أيها الملك أنه وجد عشرة رجالٍ مقتولين على ساحل البحر وسفينة الملك قد فقدت ورأينا باب الخوخة الذي في الكنيسة من جهة البحر مفتوحاً والأسير الذي كان في الكنيسة يخدمها قد فقد، فقال الملك: إن كانت سفينتي التي في البحر فقدت فبنتي مريم فيها بلا شكٍ ولا ريبٍ.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والخمسين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ملك الفرنجة لما فقدت ابنته مريم جاؤوا له بالخبر وقالوا له: أن سفينتك فقدت فقال: إن كانت سفينتي قد فقدت فابنتي فيها بلا شكٍ ولا ريبٍ، ثم أن الملك دعا من وقته وساعته بريس الميناء وقال له: وحق المسيح والدين الصحيح إن لم تلحق سفينتي في هذه الساعة بعسكرٍ وتأتيني بها وبمن فيها لأقتلنك أشنع قتلةٍ وأمثل بك أشنع مثلة، ثم صرخ عليه الملك فذهب من بين يديه وهو يرتعد وطلب العجوز من الكنيسة وقال لها: ما كنت تسمعين من الأسير الذي كان عندك في شأن بلاده ومن أي البلاد هو? فقالت له: كان يقول: أنا من مدينة الإسكندرية.فلما سمع الريس كلام العجوز عاد من وقته وساعته إلى المينة وصاح على البحرية وقال لهم: تجهزوا وحلوا القلوع ففعلوا ما أمرهم به وسافروا ولم يزالوا مسافرين ليلاً ونهاراً حتى أشرفوا على مدينة الإسكندرية في الساعة التي طلع فيها نور الدين من السفينة وترك فيها السيدة مريم وكان من جملة الإفرنج الوزير الأعور الأعرج الذي كان اشتراها من نور الدين فرأوا السفينة مربوطة فعرفوها فربطوا مركبهم بعيداً عنها وأتوا إليها في مركبٍ صغيرٍ من مراكبهم يعوم على ذراعين من الماء وفي ذلك المركب مائة مقاتلٍ ومن جملتهم الوزير الأعور الأعرج لأنه كان جباراً عنيداً وشيطاناً مريداً ولصاً محتالاً لا يقدر أحد على احتياله يشبه أبا محمد البطال.ولم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى فلك السفينة فهجموا عليها وحملوا حملةً واحدةً فلم يجدوا فيها أحداً إلا السيدة مريم فأخذوها هي والسفينة التي هي فيها بعد أن طلعوا على الشاطئ وأقاموا زمناً طويلاً ثم عادوا من وقتهم وساعتهم إلى مراكبهم وقد فازوا ببغيتهم من غير قتال ولا شهر سلاحٍ ورجعوا قاصدين بلاد الروم وسافروا وقد طاب لهم الريح، ولم يزالوا مسافرين على حمايةٍ إلى أن وصلوا إلى مدينة إفرنجة وطلعوا بالسيدة مريم إلى أبيها وهو في تخت مملكته.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والخمسين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الإفرنج لما طلعوا بالسيدة مريم إلى أبيها وهو على تخت مملكته نظر إليها وقال لها: ويلك يا خائنة كيف تركت دين الأباء والأجداد وحصن المسيح الذي عليه الإعتماد وأتبعت دين الإسلام الذي قام بالسيف على رغم الصليب والأصنام فقالت له مريم: أنا ما لي ذنبٌ لأني خرجت في الليل إلى الكنيسة لأزور السيدة مريم العذراء وأتبرك فيها فبينما أنا في غفلةٍ وإذا بسراقي المسلمين قد هجموا علي وسدوا فمي وشدوا وثاقي ووضعوني في السفينة وسافروا بي إلى بلادهم فخادعتهم وتكلمت معهم في دينهم إلى أن فكوا وثاقي وما صدقت أن رجالك أدركوني وخلصوني وأنا وحق المسيح والدين الصحيح وحق الصليب ومن صلب عليه وقد فرحت بفكاكي من أيديهم غاية الفرح واتسع صدري وانشرح حيث خلصت من أسر المسلمين.

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 828

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 829
فقال لها أبوها: كذبت يا فاجرة يا عاهرة، وحق ما في محكم الإنجيل من منزل التحريم والتحليل لا بد لي من أن أقتلك أقبح قتلة وأمثل بك أشنع مثلة، أما كفاك الذي فعلتيه في الأول ودخل علينا محالك حتى رجعت إلى بهتانك. ثم أن الملك أمر بقتلها وصلبها على باب القصر فدخل عليه الوزير الأعور في تلك الساعة وكان مغرماً بحبها قديماً وقال له: أيها الملك لا تقتلها وزوجني بها وأنا أحرص عليها غاية الحرص وما أدخل عليها حتى أبني لها قصراً من الحجر الجلمود وأعلي بنيانه حتى لا يستطيع أحدٌ من السارقين الصعود إلى سطحه وإذا فرغت من بنيانه ذبحت على بابه ثلاثين من المسلمين وأجعلهم قرباناً المسيح عني وعنها، فأنعم عليه الملك بزواجها وأذن للقسيسين والرهبان والبطارقة أن يزوجوها له فزوجوها للوزير الأعور وأذن أن يشرعوا لها في بنيان قصر عظيم يليق بها فشرع العمال في العمل. هذا ما كان من أمر الملكة مريم وأبيها والوزير الأعور.وأما ما كان من أمر نور الدين والشيخ العطار فإن نور الدين لما توجه إلى العطار صاحب أبيه استعار من زوجته أزراراً وخفاً وثياباً كثياب نساء الإسكندرية ورجعه بها إلى البحر وقصد السفينة التي فيها السيدة مريم فوجد الجو قفراً والمزار بعيداً.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والخمسين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما رجع إلى البحر وجد الجو قفراً والمزار بعيد صار قلبه حزيناً، فبكى بدموعٍ متواترةٍ وأنشد قول الشاعر:
سرى طيف سعدي طارقاً فاستفزني
سحيراً وصحبي في الفلاة رقـود
فلما انتبهنا للخـيال الـذي سـرى
أرى الجو قفراً والمـزار بـعـيدفمشى نور الدين على شاطئ البحر يتلفت يميناً وشمالاً فرأى ناساً مجتمعين على الشاطئ وهم يقولون: يا مسلمين ما بقي لمدينة الإسكندرية حرمةٌ حتى صار الإفرنج يدخلونها ويخطفون من فيها ويعودون إلى بلادهم على هينةٍ ولا يخرج وراءهم أحدٌ من المسلمين ولا من العساكر المغازين، فقال لهم نور الدين: ما الخبر? فقالوا له: يا ولدي أن مركباً من مراكب الإفرنج فيه عساكر هجموا في تلك الساعة على تلك المدينة وأخذوا سفينةً كانت راسيةً هنا بمن فيها وراحوا على حماية إلى بلادهم.فلما سمع نور الدين كلامهم وقع مغشياً عليه، فلما أفاق سألوه عن قضيته فأخبرهم بخبره من الأول إلى الأخر، فلما فهموا خبره صار كل منهم يشتمه ويسبه ويقول له: لأي شيءٍ ما تخرجها إلا بأزرارٍ ونقاب وصار كل واحدٍ من الناس يقول له كلاماً مؤلماً ومنهم من يقول: خليه في حاله يكفيه ما جرى له، وصار كل واحدٍ يوجعه بالكلام ويرميه بسهام الملام حتى وقع مغشياً عليه.فبينما الناس مع نور الدين على تلك الحالة وإذا بالشيخ العطار مقبلاً فرأى الناس مجتمعين فتوجه إليهم ليعرف الخبر فرأى نور الدين راقداً بينهم وهو مغشيٌ عليه فقعد عند رأسه ونبهه، فلما أفاق قال له: يا ولدي ما هذا الحال الذي أنت فيه? فقال له: يا عم إن الجارية التي كانت راحت مني قد جئت بها من مدينة أبيها في مركبٍ وقاسيت ما قاسيت في المجيء بها، فلما وصلت بها إلى هذه المدينة ربطت السفينة في البر وتركت الجارية فيها وذهبت إلى منزلك وأخذت من زوجتك مصالح للجارية لأطلعها بها إلى المدينة فجاء الإفرنج وأخذوا السفينة والجارية فيها وراحوا على حمايةٍ حتى وصلوا إلى مراكبهم، فلما سمع الشيخ العطار من نور الدين هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلام وتأسف على نور الدين تأسفاً عظيماً.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والخمسين بعد الثمانمائة

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 829

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 830
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العطار لما تأسف على ما جرى لنور الدين قال له: يا ولدي لأي شيءٍ ما أخرجتها من السفينة إلى المدينة من غير أزرار ولكن في هذا الوقت لا ينفع الكلام، قم يا ولدي وأطلع معي إلى المدينة لعل الله يزرقك بجارية أحسن منها فتتسلى بها عنها، والحمد لله ما خسرت فيها شيئاً بل حصل لك الربح فيها، وأعلم يا ولدي أن الإتصال والإنفصال بيد الله المتعال، فقال له نور الدين: والله يا عم إني ما أقدر أن أسلوها أبداً ولا أترك طلبها ولو سقيت من أجلها كأس الردى، فقال له العطار: يا ولدي وأي شيء في ضميرك تريد أن تفعله? فقال له: نويت أن أرجع إلى بلاد الروم وأدخل إلى مدينة إفرنجة وأخاطر بنفسي فإما عليها وأما لها، فقال له: يا ولدي إن في الأمثال السائرة: ما كل مرة تسلم الجرة وإن كانوا ما فعلوا بك في المرة الأولى شيئاً ربما يقتلوك في هذه المرة لا سيما وقد عرفوك حق المعرفة.فقال نور الدين: يا عم دعني أسافر وأقتل في هواها صريعاً ولا أموت بتركها صبراً وتحسيراً. وكان بمصادفة القدر مركباً راسياً في الميناء مجهزاً للسفر وركابه قد قضوا جميع أشغالهم وفي تلك الساعة قلعوا أوتاده وفنزل فيه نور الدين وسافر ذلك المركب مدة أيامٍ وطاب لركابه الوقت والريح.فبينما هم سائرون وإذا بمركب من مراكب الإفرنج دائر في البحر العجاج لا يرون مركباً إلا ويأسرونه خوفاً على ابنة الملك من سراق المسلمين، وإذا أخذوا مركباً يوصلون جميع من فيه إلى ملك إفرنجة فيذبحهم ويوفي بهم نذره الذي كان قد نذره من أجل ابنته، فرأوا المركب الذي فيه نور الدين فأسروه وأخذوا كل من كان فيه وأتوا بهم إلى الملك أبي مريم، فلما أوقفوه بين يديه وجدهم مائة رجل من المسلمين فأمر بذبحهم في تلك الساعة ومن جملتهم نور الدين فذبحوهم كلهم ولم يبق منهم غير نور الدين وكان الجلاد قد عفا عنه شفقةً عليه لصغر سنه ورشاقة قده.فلما رآه الملك عرفه حق المعرفة فقال: أما أنت نور الدين الذي كنت عندنا في المرة الأولى وقبل هذه المرة? فقال له: ما كنت وليس اسمي نور الدين وإنما اسمي إبراهيم، فقال له الملك: إنك تكذب بل أنت نور الدين الذي وهبتك العجوز القيمة على الكنيسة لتساعدها في خدمة الكنيسة، فقال نور الدين: يا مولاي أنا اسمي إبراهيم، فقال له الملك: إن العجوز قيمة الكنيسة إذا حضرت ونظرتك تعرف هل أنت نور الدين أو غيره.فبينما هم في الكلام وإذا بالوزير الأعرج الأعور الذي تزوج ابنة الملك قد حضر في تلك الساعة وقبل الأرض بين يدي الملك وقال له: أعلم أن القصر قد فرغ بنيانه وأنت تعرف أني نذرت للمسيح إذا اكتمل بنيانه أن أذبح على بابه ثلاثين مسلماً وقد أتيتك لآخذ من عندك ثلاثين مسلماً فأذبحهم وأوفي بهم نذر المسيح ويكونوا في ذمتي على سبيل القرض ومتى جاءني أسارى أعطيك بدلهم.فقال الملك: وحق المسيح والدين الصحيح ما بقي عندي غير هذا الأسير وأشار إلى نور الدين وقال له: خذه وأذبحه في هذه الساعة، حتى أرسل إليك البقية إذا جاءني أسارى من المسلمين فعند ذلك قام الوزير الأعور وأخذ نور الدين ومضى به إلى القصر ليذبحه على عتبة بابه فقال له الدهانون: يا مولانا ما بقي علينا من الدهان شغل يومين فاصبر علينا وأخر ذبح هذا الأسير حتى نفرغ من الدهان عسى أن يأتي إليك بقية الثلاثين فتذبح الجميع دفعة واحدة وتوفي بنذرك في يوم واحد، فعند ذلك أمر الوزير بحبس نور الدين.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة التاسعة والخمسين بعد الثمانمائة

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 830

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 831
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير لما أمر بحبس نور الدين أخذوه مقيداً جائعاً عطشاناً يتحسر على نفسه وقد نظر الموت بعينه، وكان بالأمر المقدر والقضاء المبرم للملك حصانين أخوان شقيقان أحدهما اسمه سابق والأخر لاحق وكانت بحسرة تحصيل واحد منهما لملك الأكاسرة وكان أحدهما أشهب نقياً والآخر أدهم كالليل الحالك وكان ملوك الجزائر جميعاً يقولون: كل من سرق لنا حصاناً من هذين الحصانين نعطيه جميع ما يطلبه من الذهب الأحمر والدر والجواهر فلم يقدر أحد على سرقة واحدٍ من هذين الحصانين فحصل لأحدهما مرض في عينه فأحضر الملك جميع البياطرة لدوائه فعجزوا عنه كلهم فدخل على الملك الوزير الأعور الذي تزوج ابنته فرآه مهموماً من قبل الحصان فأراد أن يزيل همه فقال: أيها الملك أعطني هذا الحصان وأنا أداويه فأعطاه له فنقله في الإصطبل الذي فيه نور الدين، فلما فارق الحصان أخاه صاح صيحةً عظيمةً وصهل حتى أزعج الناس من الصياح فعرف الوزير أنه ما حصل منه هذا الصياح إلا لفراقه من أخيه فراح وأعلم الملك فلما تحقق الملك من كلام الوزير قال: إذا كان ذلك حيواناً ولم يصبر على فراق أخيه فكيف بذوي العقول? ثم أمر الغلمان أن ينقلوا الحصان عند أخيه بدار الوزير زوج مريم وقال لهم: قولوا للوزير أن الملك يقول لك أن الحصانين أنعام منه عليك لأجل خاطر ابنته مريم.فبينما نور الدين نائمٌ في الإصطبل وهو مقيد مكبل إذ نظر الحصانين فوجد على عيني أحدهما غشاوةٌ وكان عنده بعض معرفة بأحوال الخيل وممارسة دوائها فقال في نفسه: هذا والله وقت فرحة فأقوم وأكذب على الوزير وأقول له: أنا أداوي هذا الحصان وأعمل له شيءً يتلف عينيه فيقتلني واستريح من هذه الحياة الذميمة ثم أن نور الدين انتظر الوزير إلى أن دخل الإصطبل ينظر الحصانين فلما دخل قال له نور الدين: يا مولاي أي شيءٍ يكون لي عليك إذا أنا داويت لك هذا الحصان وأعمل لك شيئاً يطيب عينيه? فقال له الوزير: وحياة رأسي إن داويته أعتقك من الذبح وأخليك تتمنى علي.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الستين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير قال لنور الدين: إن داويت الحصان أعتقك وأخليك تتمنى علي فقال: يا مولاي مر بفك قيدي فأمر الوزير بإطلاقه فنهض نور الدين وأخذ زجاجاً بكراً وسحقه وأخذا جيراً بلا طفء وخلطه بماء البصل ثم وضع الجميع في عيني الحصان وربطهما وقال في نفسه: الآن تغور عيناه فيقتلوني وأستريح من هذه العيشة الذميمة ثم أن نور الدين نام تلك الليلة بقلبٍ خالٍ من وسواس الهم وتضرع إلى الله تعالى وقال: يا رب في علمك ما يغني عن السؤال فلما أصبح الصباح وأشرقت الشمس على الروابي والبطاح جاء الوزير إلى الإصطبل وفك الرباط عن عين الحصان، ونظر إليهما فرآهما أحسن عيون ملاح بقدرة الملك الفتاح، فقال له الوزير: يا مسلم ما رأيت في الدنيا مثلك في حسن معرفتك، وحق المسيح والدين الصحيح أنك أعجبتني غاية الإعجاب فإنه عجز عن دواء هذا الحصار كل بيطار في بلادنا ثم تقدم إلى نور الدين وحل قيده بيده ثم ألبسه حلةً سنيةً وجعله ناظراً على خيله ورتب له مرتبات وجرايات وأسكنه في طبقة على الإصطبل وكان في القصر الجديد الذي بناه للسيدة مريم شباكً مطلٍ على بيت الوزير وعلى الطبقة التي فيه نور الدين.فقعد نور الدين مدة أيام يأكل ويشرب ويتلذذ ويطرب ويأمر وينهي على خدمة الخيل وكل من غاب منهم ولم يعلق على الخيل المربوطة على الطوال التي فيها خدمته يرميه ويضربه شرباً شديدا ويضع في رجليه القيد الحديد وفرح الوزير بنور الدين غاية الفرح واتسع صدره وانشرح ولم يدر ما يؤول أمره إليه وكان نور الدين كل يومٍ ينزل إلى الحصانين ويمسحهما بيده لما يعلم من معزتهما عند الوزير ومحبته لهما وكان للوزير الأعور بنت بكر في غاية الجمال كأنها غزال شاردٌ أو غصنٌ مائدٌ فاتفق أنها كانت جالسة ذات يوم من الأيام في الشباك المطل على بيت الوزير وعلى المكان الذي فيه نور الدين إذ سمعت نور الدين يغني ويسلي نفسه على المشقات.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والستين بعد الثمانمائة

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 831

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 832
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بنت الوزير الأعور سمعت نور الدين يسلي نفسه على المشقات بإنشاد هذه الأبيات:
يا عـاذلاً أصـبـح فـي ذاتـه
منـعـمـاً يزهـو بـلـذاتـه
لو عضدك الـدهـر بـآفـاتـه
لقلـت مـن ذوق مـرارتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه
أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
لكن سلمت الـيوم مـن غـدره
ومن تنـاهـيه ومـن جـوره
فلا تسلم من حـار فـي أمـره
وقال من فرط صـبـابـاتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه
أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
كن عاذر العشاق في حالـهـم
وتكن عوباً علـى عـذلـهـم
إياك أن تشتد فـي حـبـلـهـم
مجرعاً من مـر لـوعـاتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه
أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
قد كنت قبلـك بـين الـعـبـاد
كمثل من بات خلـي الـفـؤاد
لم أعرف العشق وطعم السهـاد
حتى دعانـي لـمـقـامـاتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه
أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
لم يدر الـعـشـق ومـا ذلـه
إلا الذي أقـسـمـه طـولـه
رضاع منه في الهوى عقـلـه
وشربه من مـر جـرعـاتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه
أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
كم عين صب في الدجى أسهرا
وأحرم الجفن لـذيذ الـكـرى
ركم أسـأل دمـعـه أنـهـراً
تجري على الخد بلـوعـاتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه
أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
كم في الورى من مغرمٍ مستهامٍ
سهران من وجدٍ بعيد المـنـام
ألبسه ثوب الضنى والـسـقـام
من قد نفى عنه مـنـامـاتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه
أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
كم قل صبري وبري عظـمـي
وسال دمعي منه كـالـعـنـدم
مهفهفٌ مر من مـطـعـمـي
ما كان حلواً فـي مـذاقـاتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه
أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
مسكينٌ من في الناس مثلي عشق
وبات في جنح اللـيالـي أرق
أن عام في بحر التجافي غـرقٌ
يشكوا من العشق وزفـراتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه
أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
من ذا الذي بالعشق لـم يبـتـل
ومن نجا من كـيده الأسـهـل
ومن به يعيش عيش الـخـلـى
وأين مـن فـاز بـراحـاتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه
أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
يا رب دبر من بـه قـد بـلـى
وكفله نعم أنـت مـن كـافـل
ورزقه منك باللمات الـجـلـى
وألطف به في كـل أوقـاتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه
أحرق قلـبـي بـحـرارتـهفلما استتم نور الدين أقصى كلامه وفرغ من شعره ونظامه قالت في نفسها بنت الوزير: وحق المسيح والدين الصحيح أن هذا المسلم شابٌ مليحٌ ولكنه لا شك عاشقٌ مفارقٌ فيا ترى معشوق هذا الشاب مليح مثله وهل عنده مثل ما عنده أم لا? فإن كان معشوقه مليح مثله يحق له إسالة العبرات وشكوى الصبابات وإن كان غير مليحٍ فقد ضيع عمره في الحسرات وحرم طعم اللذات.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والستين بعد الثمانمائة

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 832

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 833
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بنت الوزير قالت في نفسها: فإن كان معشوقه مليحاً يحق له إسالة العبرات وإن كان غير مليح فقد ضيع عمره في الحسرات وكانت مريم الزنارية زوجة الوزير قد نقلت إلى القصر مساء ذلك اليوم وعلمت منها بنت الوزير ضيق الصدر فعزمت أن تذهب إليها وتحدثها بخبر هذا الغلام وما سمعت منه من النظام فما استتمت الفكر في هذا الكلام حتى أرسلت خلفها السيدة مريم زوجة أبيها لأجل أن تؤانسها، بالحديث فذهبت إليها فرأت صدرها ضيقاً ودموعها جاريةٌ على خديها وهي تبكي بكاءً شديداً ما عليه من مزيد، فقالت لها بنت الوزير: أيتها الملكة لا تضيقي صدراً وقومي معي في هذه الساعة إلى شباك القصر فإن عندنا في الإصطبل شاباً مليحاً رشيق القوام حلو الكلام كأنه عاشقٌ مفارق، فقالت لها السيدة مريم: بأي علامةٍ عرفت أنه عاشقٌ مفارق? فقالت لها بنت الوزير: أيتها الملكة عرفت ذلك بإنشاد القصائد والأشعار أثناء الليل وأطراف النهر فقالت السيدة مريم في نفسها: إن كان قول بنت الوزير بيقين فهذه صفات الكئيب المسكين علي نور الدين فيا هل ترى هو ذلك الشاب الذي ذكرته بنت الوزير? ثم أن السيدة مريم زاد بها العشق والهيام والوجد والغرام فقامت من وقتها وساعتها ومشت مع بنت الوزير إلى الشباك ونظرت منه فرأته محبوبها وسيدها نور الدين ودققت النظر فيه فعرفته حق المعرفة ولكنه سقيمٌ من كثرة عشقه لها ومحبته إياها ومن نار الوجد وألم الفراق والوله والإشتياق قد زاد به النحول فصار ينشد ويقول:
القلب مملوك وعينـي جـاريةٍ
ليس لها سـحـابة مـجـاريه
بين بكائي وسهـادي والـجـوى
والنوح والحزن على أحبـابـه
وأحرقتي وأحسرتي وألوعـتـي
تكاملت أعـدادهـا ثـمـانـيه
وأتابعهـا سـتة فـي خـمـسةٍ
إلا قفوا واستمعـوا مـقـالـيه
ذكرٌ وفكـرٌ وزفـيرٌ وظـنـى
وفرط شوقٍ واشتغـال بـالـيه
في محـنةٍ وغـربةٍ وصـبـوةٍ
ولـهـفةٍ وفـرحةٍ تـوانــيه
قل اصطباري واحتمالي للجوى
لما نأى صبري دنا مـحـالـيه
قد زاد في قلبي تباريح الجـوى
يا سائلاً عن نار قلبي ما هـيه
ما بال دمعي موقداً في مهجتـي
فنار قلبي لا تـزال حـامـيه
أصبحت في طوفان دمعي غارقاً
ومن لظى هذا الهوى في هاويه وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والستين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما فرغ من شعره وتحققت منه السيدة مريم فرأته سيدها نور الدين وسمعت بليغ شعره وبديع نثره تحققت أنه هو ولكنها أخفت أمرها عن بنت الوزير وقالت لها: وحق المسيح والدين الصحيح ما كنت أحسب أن عندك خبراً بضيق صدري ثم نهضت من وقتها وساعتها وقامت من الشباك ورجعت إلى مكانها ومضت بنت الوزير إلى شغلها ثم صبرت السيدة مريم ساعةً زمانيةً ورجعت إلى الشباك وجلست فيه وصارت تنظر إلى سيدها نور الدين وتتأمل في لطفه ورقه معانيه فرأته كالبدر إذا بدر في ليلة أربعة عشر ولكنه دائم الحسرات جاري العبرات لأنه تذكر ما فات فأنشد هذه الأبيات:
أملت وصل أحبتي ما نـلـتـه
أبداً ومر العيش قد أوصلـتـه
دمعي تحاكي البحر في جريانـه
وإذا رأيت عواذلي كفكـفـتـه
آهٍ على داعٍ دعـا تـفـراقـنـا
لو نلت منه لسانه لقطـعـتـه
إلا عتب للأيامٍ في أفعـالـهـا
مزجت بصرف المر ما جرعته
فلمن أسير إلى سواكم قـاصـداً
والقلب في عرصاتكم خلفـتـه
من منصفي من ظالمٍ متحـكـمٍ
يزداد ظلماً كلما حـكـمـتـه
ملكته روحي ليحفظ مـلـكـه
فأضاعني وأضاع ما ملكـتـه
أنفقت عمري في هواه وليتنـي
أعطي وصولاً بالذي أنفقـتـه
يا أيها الرشا المسلم بمهجـتـي
يكفي من الهجران ما قد ذقتـه
أنت الذي جمع المحاسن وجهـه
لكن عليه تصبري فـرقـتـه
أحللته قلبي فحـل بـه الـبـلا
أني لراضٍ بالذي أحـلـلـتـه

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 833

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 834
وجرت دموعي مثل بحرٍ زاخرٍ
لو كنت أعرف مسلكي لسلكته
وخشيت خوفاً أن أموت بحسرةٍ
ويفوت مني كل ما أمـلـتـهفلما سمعت مريم من نور الدين العاشق المفارق المسكين، إنشاد هذه الأشعار حصل عندها من كلامه استعبار فأفاضت دمع العين، وأنشدت هذين البيتين:
تمنيت من أهوى فما لـقـيتـه
ذهلت فلم أملك لساناً ولا طرفا
وكنت معدا للعـتـاب دفـاتـراً
فلما اجتمعنا ما وجدت ولا حرفا فلما سمع نور الدين كلام السيدة مريم عرفها فبكى بكاءً شديداً وقال والله إن هذه نغمة السيدة مريم الزنارية بلا شكٍ ولا رجم غيبٍ.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والستين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما سمعها تنشد الأشعار قال في نفسه: إن هذه نغمة السيدة مريم بلا شكٍ ولا ريبٍ ولا رجم غيبٍ فيا ترى هل ظني صحيحٌ وأنها هي بعينها أو غيرها ثم أن نور الدين زادت به الحسرات وأنشد هذه الأبيات:
لما أرآني لائمي في الـهـوى
صادفت حبي في مكان رحيب
ولم أفه بالعتب عنـد الـلـقـا
ورب عتب فيه يراه الـكـئيب
فقال ما هذا السـكـوت الـذي
صدك عن رد الجواب المصيب
فقلت يا من قد غـدا جـاهـلاً
بحال أهل العشق كالمستـريب
علامة العاشق في عـشـقـه
سكوته عند لقـاء الـحـبـيبفلما فرغ من شعره أحضرت السيدة مريم دواةٍ وقرطاساً وكتبت فيه البسملة الشريفة أما بعد، فسلامٌ الله عليك ورحمته وبركاته أخبرك أن الجارية مريم تسلم عليك وهي كثيرة الشوق إليك وهذه مراسلتها إليك فساعة وقوع هذه الورقة بين يديك انهض من وقتك وساعتك واهتم بما تريده منك غاية الاهتمام والحذر كل الحذر من المخالفة ومن أن تنام فإذا مضى ثلث الليل الأول فإن تلك الساعة من أسعد الأوقات فلا يكن لك فيها شغل إلا أن تشد الفرسين وتخرج بهما خارج المدينة وكل من قال لك: أين أنت رائحٌ? فقل له: أنا رائحٌ أسيرهما فإذا قلت ذلك لا يمنعك أحدٌ فإن أهل المدينة واثقون بقفل الأبواب.ثم أن السيدة مريم لفت الورقة في منديل حريرٍ ورمتها إلى نور الدين من الشباك فأخذها وقرأها وفهم ما فيها وعرف أنها خط السيدة مريم فقبلها ووضعها بين عينيه، ثم أن نور الدين لما جن عليه الليل اشتغل بإصلاح الحصانين وصبر حتى مضى من الليل ثلثه الأول ثم قام من وقته وساعته إلى الحصانين ووضع عليهما سرجين من أحسن السروج وخرج بهما من باب الإصطبل وقفل الباب وسار بهما إلى باب المدينة وجلس ينتظر السيدة مريم.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والستين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما صار بالحصانين إلى باب المدينة جلس ينتظر السيدة مريم. هذا ما كان من أمر نور الدين.وأما ما كان من أمر الملكة مريم فأنها ذهبت من وقتها ساعتها إلى المجلس الذي هو معد لها في ذلك القصر فوجدت الوزير الأعور جالساً في ذلك المجلس متكئاً على مخدةٍ محشوةٍ من ريش النعام وهو مستح أن يمد يده إليها أو يخاطبها فلما رأته ناجت ربها وقالت: اللهم لا تبلغه مني أربا ولا تحكم علي بالنجاسة بعد الطهارة ثم أقبلت عليه وأظهرت له المودة وجلست في جانبه ولاطفته وقالت له: يا سيدي ما هذا الأعراض عنا? هل هو منك تيهٌ ودلالٌ علينا ولكن صاحب المثل السائر يقول: إذا بار السلام سلمت العقود على القيام فإن كنت يا سيدي ما تجيء عندي وتخاطبني أجيء أنا وأخاطبك فقال الوزير: الفضل والجميل لك يا ملكة الأرض في الطول والعرض وهل أنا إلا من خدامك وأقل غلمانك وإنما أنا مستحٍ أن أتجهم على مكانتك الفخمة أيتها اليتيمة الدرة ووجهي منك في الأرض فقالت له: دعنا من هذا الكلام وأتنا بالمأكل والمشرب.

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 834

ألف ليلة وليلة
مؤلف ألف ليلة وليلة
الصفحة : 835
فعند ذلك صاح الوزير على جواريه وخدمه وأمرهم بإحضار المأكل والمشرب فقدموا له سفرةً فيها ما درج وطار وسبح في البحار من قطا وسمان وأفراخ الحمام ورضيع الضأن وأوزٍ سمينٍ وفيها دجاجٍ محمرٍ وفيها من سائر الأشكال والألوان فمدت السيدة مريم يدها إلى السفرة وأكلت وصارت تلقم الوزير وتبوسه في فمه وما زالا يأكلان حتى اكتفيا من الأكل.ثم غسلا أيديهما وبعد ذلك رفع الخدم سفرة الطعام وأحضروا سفرة المدام فصارت مريم تملأ وتشرب وتسقيه وقامت بخدمته حق القيام حتى كاد أن يطير قلبه من الفرح واتسع صدره وانشرح فلما غاب عقله عن الصواب وتمكن منه الشراب مدت يدها إلى جيبها وأخرجت منه قرصاً من البنج البكر المغربي الذي إذا شم منه الفيل أدنى رائحةٍ نام من العام إلى العام وكانت أعدته لهذه الساعة.ثم غافلت الوزير وفركته في القدح وملأته وأعطته إياه فطار عقله من الفرح وما صدق أنها ناولته إياه فأخذ القدح وشربه فما استقر في جوفه حتى خر صريعاً على الأرض في الحال فقامت السيدة مريم على قدميها وعمدت إلى خرجين كبيرين وملأتهما مما خف حمله وغلا ثمنه من الجواهر واليواقيت وأصناف المعادن الثمينة.ثم حملت معها شيئاً من المأكل والمشرب ولبست آلة الحرب والكفاح من العدة والسلاح وأخذت معها لنور الدين ما يسره من الملابس الملوكيه الفاخرة وأهبة السلاح الباهرة ثم أنها رفعت الخرجين على أكتافها وخرجت من القصر وكانت ذات قوة وشجاعة وتوجهت إلى نور الدين. هذا ما كان من أمر مريم، وأما ما كان من أمر نور الدين.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والستين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مريم لما خرجت من القصر توجهت إلى نور الدين وكانت ذات قوةٍ وشجاعةٍ هذا ما كان من أمر مريم.وأما ما كان من أمر نور الدين العاشق المسكين فإنه قعد على باب المدينة ينتظرها ومقاود الحصانين في يده فأرسل الله عز وجل عليه النوم فنام وسبحان من لا ينام وكانت ملوك الجزائر في ذلك الزمان يبذلون المال رشوة على سرقة هذين الحصانين أو واحدٌ منهما.وكان موجوداً في تلك الأيام عبدٌ أسود تربى في الجزائر يعرف بسرعة الخيل فصار ملوك الإفرنج يرشونه بمالٍ كثيرٍ لأجل أن يسرق أحد الحصانين ووعده أنه إذا سرق الحصانين يعطوه جزيرة كاملة ويخلعوا عليه خلعاً سنية وقد كان لذلك العبد زمانٌ طويلٌ يدور في مدينة إفرنجة وهو مختفٍ فلم يقدر على أخذ الحصانين وهما عند الملك فلما وهبهما للوزير الأعور ونقلهما إلى إصطلبه فرح فرحاً شديداً وطمع في أخذهما وقال: وحق المسيح والدين الصحيح لأسرقهما.ثم أن العبد خرج في تلك الليلة قاصداً ذلك الإصطبل ليسرق الحصانين فبينما هو ماش في الطريق إذ لاحت منه التفاته فرأى نور الدين نائماً ومقاود الحصانين في يده فنزع المقاود من رؤوسها وأراد أن يركب واحداً ويسوق الآخر قدامه وإذا بالسيدة مريم قد أقبلت وهي حاملة الخرجين على كتفها فظنت أن العبد هو نور الدين فناولته أحد الخرجين فوضعه على الحصان، ثم ناولته الثاني فوضعه على الحصان الآخر وهو ساكت وهي تظن أنه نور الدين ثم أنها خرجت من باب المدينة والعبد ساكتٌ فقالت له: يا سيدي نور الدين ما لك ساكتاً? فالتفت العبد إليها وهو مغضب وقال لها: أي شيءٍ تقولين يا جارية? فسمعت بربرة العبد فعرفت أنها غير لغة نور الدين فرفعت رأسها إليه ونظرته فوجدت له مناخير كالإبريق فلما نظرته صار الضياء في وجهها ظلام فقالت له: من تكون يا شيخ بني حام? وما اسمك بين الآنام? فقال له: يا بنت اللئام أنا اسمي مسعود سراق الخيل والناس نيام فما ردت عليه بشيءٍ من الكلام بل جردت من وقتها الحسام وضربته على عاتقه فطلع يلمع من علائقه فوقع صريعاً على الأرض يتخبط بدمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق