ثم أن قمر الزمان ووالده التاجر عبد الرحمن أخذا الجوهري وذهبا به إلى قاعة الحريم واجتمعا به فقال له التاجر عبد الرحمن: نحن ما منعناك من الكلام إلا خوفاً من الفضيحة في حقك وحقنا ولكن نحن الآن في خلوةٍ فأفدني بما جرى بينك وبين زوجتك، فشرح له القضية من المبتدأ إلى المنتهى، فلما فرغ من قصته قال له: هل الذنب من زوجتك أو من ولدي? قال له: والله أن ولدك ما عنده ذنبٌ لأن الرجال لهم طمعٌ في النساء والنساء عليهن أن يمتنعن عن الرجال، فالعيب عند زوجتي التي خانتني وفعلت معي هذه الفعال.
فقام التاجر واجتمع بولده وقال له: يا ولدي أننا اختبرنا زوجته وعرفنا أنها خائنةٌ ومرادي الآن أن أختبره وأعرف هل هو صاحب عرضٍ ومروءةٍ أو هو ديوثٌ، فقال له: وكيف ذلك? فقال له: مرادي أن أحمله على الصلح مع زوجته فأن رضي بالصلح وسامحها فأني أضربه بالسيف فأقتله وبعد ذلك أقتلها هي وجاريتها لأنه لا ينفع في حياة الديوث والزانية وأن نفر منها فأني أزوجه شقيقتك وأعطيه أكثر من ماله التي تناولته منه.
ثم أنه عاد إليه وقال له: يا معلم أن معاشرة النساء تحتاج إلى طول البال ومن كان يهواهن فأنه يحتاج إلى سعة الصدر لأنهن يعربدن الرجال ويؤذينهن لعزتهن عليهن بالحسن والجمال فيستعظمن أنفسهن ويحتقرن الرجال ولا سيما إذا أبانت لهن المحبة من بعولتهن فيقابلنه بالتيه والدلال وكريه الفعال من جميع الجهات، فأن كان الرجل يغضب كلما رأى من زوجته ما يكره فلا يحصل بينه وبينها عشرةٌ ولا يوافقهن إلا من كان واسع البال كثير الاحتمال وأن لم يحتمل الرجل زوجته ويقابل إساءتها بالسماح فأنه لا يحصل له في عشرتها نجاح، وقد قيل في حقهن: لو كن في السماء لمالت إليهن أعناق الرجال ومن قدر وعفا كان أجره على الله.
وهذه المرأة زوجتك ورفيقتك وقد طالت عشرتها معك فينبغي أن يكون عندك لها السماح وهذا في العشرة من علامات النجاح، والنساء ناقصات عقلٍ ودينٍ وهي أن أساءت فأنها قد تابت وأن شاء الله لا تعود إلى فعل ما كانت تفعله أولاً، فالرأي عندي أنك تصطلح أنت وإياها وأنا أرد لك أكثر من مالك وأنت أقمت عندي فمرحباً بك وبها وليس لكما إلا ما يسركما وأن كنت تطلب التوجه إلى بلادك فأنا أعطيك ما يرضيك وها هو التختروان حاضرٌ فركب زوجتك وجاريتها فيه وسافر إلى بلادك والذي يجري بين الرجل وزوجته كثيرٌ فعليك بالتيسير ولا تسلك التعسير.
فقال الجوهري: يا سيدي وأين زوجتي فقال له ها هي في هذا القصر فاطلع إليها واسترض بها من شأني ولا تشوش عليها فان ولدي لما أتى بها وطلب زواجها منعته عنها ووضعتها في هذا القصر وقفلت عليها وقلت في نفسي ربما يجيء زوجها فأسلمها إليه لأنها جميلة الصورة والتي مثل هذه لا يمكن زوجها أن يفوتها والذي حسبته حصل والحمد لله تعالى على اجتماعك بزوجتك، وأما من جهة ابني فأني خطبت له وزوجته غيرها وهذه الولائم والضيافات من أجل فرحه، وفي هذه الليلة أدخله على زوجته وها هو مفتاح القصر الذي فيه زوجتك فخذه وافتح الباب وادخل على زوجتك وجاريتك وانبسط معها ويأتيكم الأكل والشرب ولا تنزل من عندها حتى تشبع منها، فقال جزاك الله عني كل خيرٍ: ثم تناول المفتاح وطلع فرحاً فظن التاجر أن هذا الكلام أعجبه وأنه رضي به فأخذ السيف وتبعه من وراءه بحيث لم يره ثم وقف ينظر ما يحصل بينه وبين زوجته. هذا ما كان من أمر التاجر عبد الرحمن.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 952
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 953
وأما ما كان من أمر الجوهري فأنه دخل على امرأته فرآها تبكي بكاءً شديداً بسبب أن قمر الزمان تزوج بغيرها ورأى الجارية تقول لها كم نصحتك يا سيدتي وقلت لك أن هذا الغلام لا ينالك منه خيرٌ فاتركي عشرته فما سمعت كلامي حتى نهبت جميع مال زوجك وأعطيته له وبعد ذلك فارقت مكانك وتعلقت في هواه وأتيت معه في هذه البلاد وبعد ذلك رماك من باله وتزوج بغيرك ثم جعل آخر تلفك به الحبس، فقالت لها اسكتي يا ملعونة فأنه وأن تزوج بغيري لا بد أن أخطر يوماً على باله، فأنا لا أسلوا مسامرته فلا بد أن يتذكر عشرتي وصحبتي ويسأل عني وأنا لا أرجع عن محبته ولا أحول عن هواه ولو مت في السجن فأنه حبيبي وطبيبي وعشمي منه أنه يرجع إلي ويعمل معي انبساطاً فلما سمعها زوجها تقول هذا الكلام دخل عليها وقال لها يا خائنة أن عشمك فيه مثل عشم إبليس في الجنة كل هذه العيوب فيك وأنا ما عندي خبرٌ ولو علمت أن فيك عيباً من هذه العيوب ما كنت قنيتك عندي ساعةً واحدةً ولكن حيث تيقنت فيك ذلك ينبغي أن أقتلك ولو قتلوني فيك يا خائنة ثم قبض عليها بيديه الاثنتين.
ثم اتكأ على زمارة حلقها وكسرها فصاحت الجارية وأسيدتاه فقال يا عاهرة العيب كله منك حيث كنت تعرفين أن فيها هذه الخصلة ولم تخبريني ثم قبض على الجارية وخنقها كل ذلك حصل والتاجر ممسكٌ السيف بيده وهو واقفٌ خلف الباب يسمع بأذنه ويرى بعينه ثم أن عبيد الجوهري لما خنقهما في قصر التاجر كثرت عليه الأوهام وخاف عاقبة الأمر وقال في نفسه أن التاجر إذا علم أني قتلتهما في قصره، لا بد أنه يقتلني ولكن اسأل الله أن يجعل قبض روحي على الإيمان وصار متحيراً في أمره ولم يدر ماذا يفعل.
فبينما هو كذلك وإذا بالتاجر عبد الرحمن دخل عليه وقال له لا بأس عليك أنك تستاهل السلامة وانظر هذا السيف الذي في يدي فأنا كنت مضمراً على أن أقتلك أن صالحتها ورضيت عليها وأقتل الجارية وحيث فعلت هذه الفعال فمرحباً بك، ثم مرحباً وما جزاؤك إلا أن أزوجك ابنتي أخت قمر الزمان ثم أنه أخذه ونزل به وأمر بإحضار الغاسلة وشاع الخبر أن قمر الزمان ابن التاجر عبد الرحمن جاء بجاريتين معه من البصرة فماتتا فصار الناس يعزونه ويقولون له تعيش رأسك وعوض الله عليك، ثم غسلوهما وكفنوهما ولم يعرف أحدٌ حقيقة الأمر هذا ما كان من أمر عبيد الجوهري وزوجته وجاريته.
وأما ما كان من أمر التاجر عبد الرحمن فأنه أحضر شيخ الإسلام وجميع الأكابر وقال له شيخ الإسلام اكتب كتاب بنتي كوكب الصباح على المعلم عبيد الجوهري ومهرها قد وصلني بالتمام والكمال فكتب الكتاب وسقاهم الشربات وجعلوا الفرح واحداً وزفوا بنت شيخ الإسلام زوجة قمر الزمان وأخته كوكب الصباح زوجة المعلم عبيد الجوهري في تختروان واحدٍ في ليلةٍ واحدةٍ وفي المساء زفوا قمر الزمان والمعلم عبيد سواءً وأدخلوا قمر الزمان على بنت شيخ الإسلام وأدخلوا المعلم عبيداً على بنت التاجر عبد الرحمن فلما دخل عليها رآها أحسن من زوجته وأجمل منها بألف طبقةٍ.
ثم أنه أزال بكارتها ولما أصبح دخل على التاجر عبد الرحمن وقال يا عم أني اشتقت إلى بلادي ولي فيها أملاكٌ وأرزاقٌ وكنت أقمت فيها صانعاً من صناعي وكيلاً عني وفي خاطري أن أسافر إلى بلادي لأبيع أملاكي وأرجع إليك فأن تأذن لي في التوجه إلى بلادي من أجل ذلك فقال له يا ولدي قد أذنت لك ولا لوم عليك في هذا الكلام فأن حب الوطن من الإيمان والذي ما له خير في بلاده ما له خير في بلاد الناس وربما أنك إذا سافرت بغير زوجتك ودخلت بلادك يطيب لك فيها القعود وتصير متحيراً بين رجوعك إلى زوجتك وقعودك في بلادك فالرأي الصواب أن تأخذ زوجتك معك وبعد ذلك أن شئت الرجوع إلينا فارجع أنت وزوجتك ومرحباً بك وبها لأننا ناس لا نعرف طلاقاً ولا تتزوج منا امرأةٌ مرتين ولا تهجر إنساناً بطراً فقال يا عم أخاف أن ابنتك لا ترضى بالسفر معي إلى بلادي فقال له يا ولدي: نحن ما عندنا نساء تخالف بعولتهن ولا نعرف امرأة تغضب على بعلها فقال له بارك الله فيكم وفي نسائكم.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 953
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 954
ثم أنه دخل على زوجته وقال لها أنا مرادي السفر إلى بلادي فما تقولين قالت أن أبي يحكم علي ما دمت بكراً وحيث تزوجت فقد صار الحكم كله في يد بعلي وأنا لا أخالفه فقال لها بارك الله فيك وفي أبيك ورحم الله بطناً حملتك وظهراً ألقاك، ثم بعد ذلك قطع علائقه وأخذ في العلو فأعطاه عمه شيئاً كثيرا وودعا بعضهما ثم أخذ زوجته وسافر ولا يزال مسافراً حتى دخل البصرة فخرجت لملاقاته الأقارب والأصحاب وهم يظنون أنه كان في الحجاز وصار بعض الناس فرحاناً بقدومه وبعضهم مغموماً لرجوعه إلى البصرة وقال الناس لبعضهم أنه يضيق علينا في كل جمعةٍ بحسب العادة ويحبسنا في الجوامع والبيوت حتى يحبس قططنا وكلابنا هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر الملك فأنه لما علم بقدومه غضب عليه وأرسل إليه وأحضره بين يديه وعنفه وقال له كيف تسافر ولم تعلمني بسفرك فهل كنت عاجزاً عن شيءٍ أعطيه لك لتستعين به على الحج إلى بيت الله الحرام فقال له العفو يا سيدي والله ما حججت ولكن جرى لي كذا وكذا وأخبره بما جرى له مع زوجته ومع التاجر عبد الرحمن المصري، وكيف زوجه ابنته إلى أن قال له وقد جئت بها إلى البصرة فقال له والله لولا أني أخاف من الله تعالى لقتلتك وتزوجت بهذه البنت الأصلية من بعدك ولو كنت انفق عليها خزائن الأموال لأنها لا تصلح إلا للملوك ولكن جعلها الله من نصيبك وبارك الله لك فيها فاستعوض بها خيراً.
ثم أنه أنعم على الجوهري ونزل من عنده وقعد معها خمس سنواتٍ وبعد ذلك توفي إلى رحمة الله تعالى فخطبها الملك، فما رضيت وقالت أيها الملك أنا ما وجدت في طائفتي امرأةً تزوجت بعد بعلها فأنا لا أتزوج أحداً بعد بعلي فلا أتزوجك ولو كنت تقتلني فأرسل يقول لها هل تطلبين التوجه إلى بلادك فقالت إذا فعلت خيراً تجازى به فجمع لها جميع أموال الجوهري وزادها من عنده على قدر مقامه، ثم أرسل معها وزيراً من وزرائه مشهوراً بالخير والصلاح وأرسل معه خمسمائة فارسٍ فسار بها ذلك الوزير حتى أوصلها إلى أبيها وأقامت من غير زواجٍ حتى ماتت ومات الجميع وإذا كانت هذه المرأة ما رضيت أن تبدل زوجها بعد موته بسلطانٍ كيف تسوى بمن تبدله في حال حياته بغلامٍ مجهول الأصل والنسب وخصوصاً إذا كان ذلك في السفاح وعلى غير طريق سنة النكاح ومن ظن أن النساء كلهن سواءٌ فأن داء جنونه ليس له دواء فسبحان من له الملك والملكوت هو الحي الذي لا يموت.
الأحد، 7 فبراير 2010
165
فقلت: والله يا سيدتي أني أنا الذي خاطرت بنفسي وما غرضي من الاجتماع بها إلا النظر والإستماع لحديثها فقالت: أحسنت فقلت: يا سيدتي الله شهيد على ما أقول أن نفسي لم تحدثني في شأنها بمعصيةٍ، فقالت: بهذه النية نجاك الله ووقعت رحمتك في قلبي، ثم قالت لجاريتها فلانه: أمضي إلى شجرة الدر وقولي لها: أن أختك تسلم عليك فتفضلي عندها في هذه الليلة على جري عادتك فأن صدرها ضيقٌ.
فتوجهت إليها ثم عادت وأخبرتها أنها تقول: متعني الله بطول حياتك وجعلني فداك الله لو دعوتيني إلى غير ما توقفت لكن يضرني صداع الخليفة وأنت تعلمين منزلتي عنده، فقالت للجارية: أرجعي إليها وقولي لها: أنه لا بد من حضورك لسرٍ بينك وبينها، فتوجهت إليها الجارية وبعد ساعةٍ جاءت الجارية ووجهها يضيء كأنه البدر فقابلتها واعتنقتها وقالت: يا أبا الحسن أخرج إليها وقبل يديها.
وكنت في مخدعٍ في داخل الحجرة فخرجت إليها يا أمير المؤمنين فلما رأتني ألقت نفسها علي وضمتني إلى صدرها وقالت لي: كيف صرت بلباس الخليفة وزينته وبخوره? ثم قالت: حدثني بما جرى لك، فحدثتها بما جرى لي وبما قاسيته من الخوف وغيره فقالت: يعز عليَّ ما قاسيته من أجلي والحمد لله الذي جعل العاقبة إلى السلامة وتمام السلامة دخولك في منزلي ومنزل أختي.
ثم أخذتني إلى حجرتها وقالت لأختها: أني قد عاهدته أن لا أجتمع معه في الحرام ولكن كما خاطر بنفسه وارتكب هذا الهول لأكونن أرضاً لوطء قدميه وتراباً على نعليه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والستين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت لأختها: أني قد عاهدته أني لا أجتمع معه في الحرام ولكن كما خاطر بنفسه وارتكب هذه الأهوال لأكونن أرضاً لوطء قدميه وتراباً لنعليه، فقالت لها أختها: بهذه النية تجاه الله تعالى فقالت: سوف ترين ما أصنع حتى اجتمع معه في الحلال، فلا بد أن أبذل مهجتي في التحيل.
فبينما نحن في الحديث وإذا بضجةٍ عظيمةٍ فالتفتنا فرأينا الخليفة قد جاء يريد حجرتها من كثرة ما هو كلفٌ بها فأخذتني يا أمير المؤمنين ووضعتني في سردابٍ وطبقته علي وخرجت تقابل الخليفة فلاقته ثم جلس فوقفت بين يديه وخدمته ثم أمرت بإحضار الشراب، وكان الخليفة يحب جاريةً اسمها البنجة وهي أم المعتز بالله وكانت الجارية قد هجرته وهجرها فلعز الحسن والجمال تصالحه والمتوكل لعزة الخلافة والملك لا يصالحها ولا يكسر نفسه لها مع أن في قلبه منها لهيب النار ولكنه تشاغل عنها بنظائرها من الجواري والدخول إليهن في حجراتهن، وكان يحب غناء شجرة الدر فأمرها بالغناء وتناولت العود وشدت الأوتار وغنت بهذه الأشعار: عجبت لسعي الدهر بيني وبينهـا فلما انقضى ما بيننا سكن الدهـر
هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى وزرتك حتى قيل ليس له صبـر
فيا حبها زدني جـوىً كـل لـيلةٍ ويا سلوة الأيام موعدك الحشـر
لها بشرٌ مثل الحرير ومنـطـقٌ رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر
وعينان قال الله كونا فـكـانـتـا فعولان بالألباب ما يفعل السحـر
فلما سمعها الخليفة طرب طرباً شديداً وطربت أنا يا أمير المؤمنين في السرداب، ولولا لطف الله تعالى لصحت وافتضحنا، ثم أنشدت هذه الأبيات: أعانقه والنفس بعـد مـشـوقةٌ إليه وهل بعد العنـاق تـدانـي
وألثم فاه كي تزول حـرارتـي فيشتد ما ألقى من الـهـيمـان
كأن فؤادي ليس يبري غلـيلـه سوى أن ترى الروحان يمتزجان
فطرب الخليفة وقال: تمني عليَّ يا شجرة الدر فقالت: أتمنى عليك عتقي يا أمير المؤمنين لما فيه الثواب فقال: أنت حرةٌ لوجه الله تعالى فقبلت الأرض بين يديه فقال: خذي العود وقولي لنا شيئاً في شأن جاريتي التي أنا متعلقٌ بهواها والناس تطلب رضاي وأنا أطلب رضاها، فأخذت العود وأنشدت هذين البيتين: أيا ربة الحسن التي اذهبت نسكي على كل أحوالي فلا بد لي منك
فأما بذل وهو أليق بـالـهـوى وأما بعزٍ وهو أليق بالـمـلـك
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 930
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 931
فطرب الخليفة وقال: خذي العود وغني شهراً يتضمن شرح حال مع ثلاث جوار ملكن قيادي ومنعن رقادي وهن: أنت وتلك الجارية أهاجرة وأخرى لا أسميها لها مناظرة، فأخذت العود، وأطربت بالنغمات، وأنشدت هذه الأبيات: ملك الثلاث الغانيات عنانـي وحللن من قلبي أعز مكـان
ما لي مطاوع في البرية كلها وأطيعن وهو في عصيانـي
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى وبه غلبن أعز من سلطاني
فتعجب الخليفة من موافقة هذا الشعر لحاله غاية العجب ومال به إلى مصالحة الجارية الهاجرة الطرب ثم خرج وقصد حجرتها فسبقته جاريةٌ وأخبرتها بقدوم الخليفة فأستقبلته وقبلت الأرض بين يده ثم قبلت قدميه فصالحها وصالحته. هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر شجرة الدر فأنها جاءت إلي وهي فرحانةٌ وقالت: أني صرت حرةً بقدومك المبارك ولعل الله يعينني على ما أدبره حتى اجتمع بك في الحلال فقلت: الحمد لله.
فبينما نحن في الحديث وإذا بخادمها قد دخل علينا فحدثناه بما جرى لنا فقال: الحمد لله الذي جعل آخره خيراً ونسأل الله أن يتم ذلك بخروجك سالماً فبينما نحن في الحديث وإذا بالجارية أختها وقد جاءت وكان اسمها فاتر فقالت: يا أختي كيف نعمل حتى نخرجه من القصر سالماً فأن الله تعالى منَّ علي بالعتق وصرت حرةً ببركة قدومه فقالت لها: ليس لي حيلةٌ في خروجه إلا بأن ألبسه ثياب النساء ثم جاءت ببدلةٍ من ثياب النساء فألبستني إياها ثم خرجت يا أمير المؤمنين في ذلك الوقت فلما جئت إلى وسط القصر إذا بأمير المؤمنين جالسٌ والخدم بين يديه فنظر إلي وأنكرني غاية الإنكار وقال لحاشيته: اسرعوا ائتوني بهذه الجارية فلما أتوا بي رفعوا نقابي فلما رآني عرفني وسألني فأخبرته بالخبر ولم أخف عليه شيئاً فلما سمع حديثي تفكر في أمري ثم قام من وقته وساعته ودخل حجرة شجرة الدر فقال: كيف تختارين علي بعض أولاد التجار? فقلبت الأرض بين يديه وحدثته بحديثها من أوله إلى آخره على وجه ثم انصرف ودخل عليها خادمها وقال: طيبي نفساً أن صاحبك لما حضر بين يدي الخليفة سأله فأخبره كما أخبرته حرفاً بحرفٍ ثم رجع الخليفة وأحضرني بين يديه وقال: ما حملك على التجارة على دار الخلافة? فقلت: يا أمير المؤمنين حملني على ذلك جهلي والصبابة والإقبال على عفوك وكرمك ثم بكيت وقلبت الأرض بين يديه فقال: عفوت عنكما ثم أمرني بالجلوس فجلست فدعا بالقاضي أحمد ابن أبي داؤد وزوجني بها وأمر بحمل جميع ما عندها إلي وزفوها علي في حجرتها.
وبعد ثلاثة أيامٍ خرجت ولقيت جميع ذلك إلى بيتي فجميع ما تنظره يا أمير المؤمنين في بيتي وتنكره كله من جهازها ثم أنها قالت لي يوماً من الأيام: اعلم أن المتوكل رجلٌ كريمٌ وأخاف أن يتذكرنا أو يذكرنا عنده أحدٌ من الحساد فأريد أن أعمل شيئاً يكون فيه الخلاص من ذلك قلت: وما هو? قالت: أريد أن استأذنه في الحج والتوبة من الغناء فقلت لها: نعم الرأي الذي أشرت إليه فبينما نحن في الحديث وإذا برسول الخليفة قد جاء في طلبها لأنه كان يحب غناءها فمضت وخدمته فقال لها: لا تنقطعي عنا فقالت سمعاً وطاعةً فاتفق أنها ذهبت إليه في بعض الأيام وكان قد أرسل إليها على جري العادة فلم أشعر إلا وقد جاءت من عنده ممزقة الثياب باكية العين ففزعت من ذلك، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون وتوهمت أنه أمر بالقبض علينا فقلت لها: هل المتوكل غضب علينا? فقالت: وأين المتوكل? أن المتوكل قد انقضى حكمه وانحى رسمه فقلت: أخبريني بحقيقة الأمر فقالت له: أنه كان جالساً خلف الستارة يشرب وعنده الفتح بن خافان وصدقة بن صدقة فهجم عليه ولده المنتصر هو وجماعته من الأتراك فقتله وانقلب السرور بالشرور والخد الجميل بالبكاء والعويل فهربت أنا والجارية وسلمنا الله.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 931
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 932
ثم قمت في الحال يا أمير المؤمنين وانحدرت إلى البصرة وجاءني الخبر بعد ذلك بوقوع فتنةٍ بين المنتصر والمستعين فخفت ونقلت زوجتي وجميع مالي إلى البصرة. وهذه حكايتي يا أمير المؤمنين لا زدتها حرفاً ولا نقصتها حرفاً فجميع ما نظرته في بيتي يا أمير المؤمنين مما عليه اسم جدك المتوكل هو من نعمته علينا لأن أصل نعمتنا من أصول الأكرمين وأنتم أهل النعم ومعدن الكرم ففرح الخليفة بذلك فرحاً عظيماً وتعجب من حديثه ثم أخرجت للخليفة الجارية وأولادي منها فقبلوا الأرض بين يديه فتعجب من جمالها واستدعى بدواة وقرطاس وكتب لنا برفع الخراج من أملاكنا عشرين سنةً ثم خرج الخليفة واتخذه نديماً إلى أن فرق الدهر بينهم وسكنوا القبور بعد القصور وسبحان الملك الغفور.
حكاية قمر الزمان مع معشوقته
ومما يحكى أيضاً أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان رجلٌ تاجرٌ اسمه عبد الرحمن قد رزقه الله بنتاً وولداً فسمى البنت كوكب الصباح لشدة حسنها وجمالها وسمى الولد قمر الزمان لشدة حسنه ولما نظر ما أعطاهما الله من الحسن والجمال والبهاء والاعتدال خاف عليهما من أعين الناظرين وألسنة الحاسدين ومكر الماكرين وتحيل الفاسقين فحجبهما عن الناس في قصرٍ مدة أربعة عشر سنةً ولم يرهما أحدٌ غير والديهما وجاريةٌ تتعاطى خدمتهما وكان والدهما يقرأ القرآن كما أنزله الله وكذلك أمهما تقرأ القرآن فصارت الأم تقريئ ابنتها والرجل يقرئ ولده حتى حفظا القرآن وتعلما الخط والحساب والفنون والآداب من والديهما ولم يحتاجا إلى معلمٍ فلما بلغ الولد مبلغ الرجال قالت المرأة لزوجها التاجر: إلى متى وأنت حاجب ولدك قمر الزمان عن أعين الناس? أهو بنتٌ أم غلامٌ? فقال لها: غلامٌ، قالت: حيث كان غلاماً لم لا تأخذه معك إلى السوق وتقعده في الدكان حتى يعرف الناس ويعرفوه لأجل أن يشتهر عندهم أنه ابنك وتعلمه البيع والشراء وربما يحصل لك أمر فيكون الناس قد عرفوا أنه ولدك فيضم يده على مخلفاتك وأما إذا مت على هذه الحالة وقال للناس أنا ابن التاجر عبد الرحمن فأنهم لا يصدقونه بل يقولون: ما رأيناك ولا نعرف أن له ولداً وتأخذ أموالك الحكام ويصير ولدك محروماً وكذلك البنت، مرادي أن أشهرها عند الناس لعل أحداً يكون كفؤاً لها يخطبها فنزوجها له ونفرح بها فقال لها: إنما فعلت ذلك مخافةً عليهما من أعين الناس.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والستين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زوجة التاجر لما قالت له ذلك الكلام قال لها: إنما فعلت ذلك مخافةً عليهما من أعين الناس لأني محبٌ لهما والمحب شديد الغيرات وقد أحسن قول من قال هذه الأبيات: أغار عليك من نظري ومني ومنك ومن مكانك والزمان
ولو أني وضعتك في عيوني دوماً ما سئمت من التداني
ولو واصلتني في كـل يومٍ إلى يوم القيامة ما كفانـي
فقالت له زوجته: توكل على الله ولا بأس على من يحفظه الله وخذه في هذا اليوم معك إلى الدكان ثم أنها ألبسته بدلةً من أفخر الملابس فصار فتنةً للناظرين وحسرةً في قلوب العاشقين وأخذه أبوه معه ومضى به إلى السوق فصار كل من رآه يفتتن به ويتقدم إليه ويبوس يده ويسلم عليه وصار أبوه يشتم الناس حيث يتبعنه لقصد الفرجة وصار البعض من الناس يقول: أن الشمس قد طلعت في المحل الفلاني وأشرقت في السوق، والبعض يقول: مطلع البدر في الجهة الفلانية والبعض يقول: ظهر هلال العيد على عباد الله وصاروا يلمحون إلى الولد بالكلام ويدعون له وقد حصل لأبيه خجلٌ من كلام الناس ولا يقدر أن يمنع أحداً منهم عن الكلام وصار يشتم أمه ويدعو عليها لأنها هي التي كانت سبباً في خروجه والتفت أبوه فرأى الخلائق مزدحمين عليه خلفه وقدامه وهو ماشٍ إلى أن وصل إلى الدكان ففتح الدكان وجلس وأجلس ولده قدامه والتفت إلى الناس فرآهم قد سدوا الطريق وصار كل من مر به من رائحٍ وغادٍ يقف قدام الدكان وينظر إلى ذاك الوجه الجميل ولا يقدر أن يفارقه وانعقد عليه اجماع النساء والرجال متمثلين بقول من قال: خلقت الجمال لنا فـتـنةً وقلت لنا يا عبدي أتقون
وأنت جميلٌ تحب الجمال فكيف عبادك لا يعشقون
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 932
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 933
فلما رأى التاجر عبد الرحمن الناس مزدحمين عليه وواقفين صفوفاً نساءً ورجالاً لديه شاخصين لولده خجل غاية الخجل وصار متحيراً في أمره ولم يدر ماذا يصنع فلم يشعر إلا ورجلٌ درويشٌ من السياحين وعليه شعار عباد الله الصالحين وقد أقبل عليه من طرف الشوق ثم تقدم إليه التاجر وصار ينشد الأشعار ويرخي الدموع الغزار فلما رأى قمر الزمان كأنه قضيب البان نابتٌ على قضيبٍ من الزعفران أفاض دمع العين وأنشد هذين البيتين: رأيت غصناً على كئيب شبيه بـدرٍ إذا تـلألأ
فقلت ما الاسم قال لولو فقلت لي لي فقال لا لا
ثم أن الدرويش صار يمشي الهوينا ويمسح شيبته بيده اليمنى فانشق لهيبته قلب الرخام، فلما نظر إلى الغلام اندهش منه العقل والنظر وانطبق عليه قول الشاعر: فبينما ذاك المليح فـي مـحـلٍ من وجهه هلال عيد الفطر هل
إذا بشيخٍ ذي وقـار قـد أهـل معتمداً في مشيه على مـهـل
يرى عـلـيه أثـر الـزهـد
قد مارس الأيام والليالي وخاض في الحرام والـحـلال
وهام بالـنـسـاء والـرجـال ورق حتى صار كـالـحـلال
وعاد عظماً بالباقـي جـلـد
وكان في ذا الفن مغربياً الشـيخ عـنـده يرى صـبـيا
وفي محبة الـنـسـاء عـذرياً في الخصلتين مـاهـراً عـويا
فزينـب لـديه مـثــل زيد
يهيم بالحسنا ويهوى الحسنا ويندب الربع ويبكي الـدمـنـا
تخاله من فرط شوقٍ غصـنـا مع الصبا إلى هناك أو هـنـا
إن الجمود من طباع الصـلـد
وكان في فن الهوى خبيراً مستيقظاً في أمـره بـصـيرا
وجاب منه السهل والعـسـيرا وعانق الظـبـية والـغـريرا
وهام بالشيب معاً والـمـراد
ثم تقدم إلى الولد وأعطاه عرق ريحانٍ فمد أبوه يده إلى جيبه وأخرج له ما تيسر من الدراهم وقال: خذ نصيبك يا درويش واذهب إلى حال سبيلك فأخذ منه الدرويش الدراهم وجلس على مصطبة الدكان قدام الولد وصار ينظر إليه ويبكي ويتحسر حسراتٍ متتابعةٍ ودموعه كالعيون النابعة فصارت الناس تنظر إليه وتعترض عليه وبعضهم يقول: كل الدراويش فساق وبعضهم يقول: أن الدرويش في قلبه من عشق الولد احتراق، وأما أبوه فأنه لما عاين هذا الحال قام وقال: قم يا ولدي حتى نقفل الدكان ونروح إلى بيتنا ولا ينبغي لنا في هذا اليوم بيعٌ ولا شراءٌ الله تعالى يجازي أمك بما فعلت معنا فأنها هي التي تسببت في هذا كله، ثم قال: يا درويش قم حتى أقفل الدكان، فقام الدرويش وقفل التاجر دكانه وأخذ ولده ومشى فتبعهما الدرويش والناس إلى أن وصلا إلى منزلهما فدخل الولد المنزل والتفت التاجر إلى درويش وقال له: ما تريد يا درويش? وما لي أراك تبكي? فقال: يا سيدي أريد أن أكون ضيفك في هذه الليلة والضيف ضيف الله تعالى فقال التاجر: مرحباً بضيف الله ادخل يا درويش.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والستين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الدرويش لما قال للتاجر والد قمر الزمان: أنا ضيف الله قال التاجر: مرحباً بضيف الله، أدخل يا درويش وقال التاجر في نفسه: إذا كان هذا الدرويش عاشقاً للولد وطلب منه فاحشةً فلا بد أن أقتله في هذه الليلة وأخفي قبره وأن كان ما عنده فسادٌ فإن الضيف يأكل نصيبه.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 933
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 934
ثم أنه أدخل الدرويش هو وقمر الزمان قاعةً وقال لابنه قمر الزمان: سر يا ولدي واجلس بجانب الدرويش وناغشه ولاعبه بعد أن أخرج من عندكما فأن طلب منك فساداً فأنا أكون ناظراً لكما من الطاقة المطلة على القاعة فأنزل إليه وأقتله، ثم أن الولد لما اختلى به درويش في تلك القاعة وقعد بجانبه فصار الدرويش ينظر إليه ويتحسن ويبكي وإذا كلمه الولد يرد عليه برفقٍ وهو يرتعش ويلتفت إلى الولد ويتنهد ويبكي إلى أن أتى العشاء فصار يأكل وعينه على الولد ولا يفتر عن البكاء فلما مضى ربع الليل وفرغ الحديث وجاء وقت النوم قال أبو الولد: يا ولدي تقيد بخدمة عمك الدرويش ولا تخالفه وأراد أن يخرج فقال له الدرويش: يا سيدي خذ ولدك معك أو نم عندنا، قال: لا ها هو ولدي نائماً عندك ربما تشتهي نفسك شيئاً فولدي يقضي حاجتك ويقوم بخدمتك، ثم خرج وخلاهما وقعد في قاعةٍ ثانيةٍ فيها طاقةٌ تطل على القاعة التي هما فيها هذا ما كان من أمر التاجر.
وأما ما كان من أمر الولد فأنه تقدم إلى الدرويش وصار يناغشه ويعرض عليه نفسه فاغتاظ الدرويش وقال له: ما هذا الكلام يا ولدي? أعوذ بالله من الشيطان الرجيم اللهم أن هذا منكراً لا يرضيك أبعد عني يا ولدي ثم قام الدرويش من مكانه وقعد بعيداً عن الولد فتبعه الولد ورمى روحه عليه وقال له: لأي شيءٍ يا درويش تحرم نفسك من لذة وصالي وأنا قلبي يحبك? فازداد غيظ الدرويش وقال له: أن لم تمتنع عني ناديت أباك وأخبرته بخبرك فقال له: أن أبي يعرف أنني بهذه الصفة ولا يمكن أن يمنعني ولا جبر بخاطري لأي شيء تمتنع عني أما أعجبتك? فقال له: والله يا ولدي ما أفعل ذلك ولو قطعت بالسيوف البواتر وأنشد قول الشاعر: أن قلبي يهوى الملاح ذكوراً وأناثاً ولست بالمـتـوانـي
بل أراهم أصائلاً وبـكـوراً لم أكن لائطاً ولا أنا زانـي
ثم بكى وقال: قم افتح لي الباب حتى أروح إلى سبيلي أنا ما بقيت أنام في هذا المكان ثم قام على قدميه فتعلق به الولد وصار يقول له: انظر لاشراق وجهي وحمرة خدي ولين معاطفي ورقة شفائفي، ثم كشف له عن ساق يخجل الخمر والسلقي ورنا إليه بلحظٍ يعجز السحر والراقي وكان بديع الجمال كثير الدلال كما قال فيه بعض من قال: لم أنسه مذ قام يكشف عامداً عن ساقه كاللؤلؤ الـبـراق
لا تعجبوا من أن تقوم قيامتي إن القيامة يوم كشف الساقي
ثم بين له الغلام صدره وصار يقول له: انظر إلى نهودي فأنها أحسن من نهود البنات وريقي أحلى من السكر النبات فدع الورع والزهادة وخلنا وعليك الأمان من الردى وأترك هذه البلاد فأنها بئست العادة وصارت يريه ما خفي من محاسنه ويبديه ويثني عنان عقله والدرويش لم يلتفت إليه ويخفي وجهه ويقول: أعوذ بالله استح يا ولدي أن هذا الشيء حرامٌ لا أفعله ولا في من النسك والعبادة واغتنم وصالي وتمل بجمالي ولا تخف من الشيء أبدا المنام فشدد عليه الغلام فأنفلت الدرويش وأستقبل القبلة وصار يصلي.
فلما رآه تركه حتى صلى ركعتين وسلم وأراد أن يتقدم إليه فنوى الصلاة مرةً ثانيةً وصلى ركعتين ولم يزل يفعل هكذا ثالثاً ورابعاً وخامساً فقال له الولد: وما هذه الصلاة? هل مرادك أن تطير إلى السحاب أضعت حظنا وأنت طول الليل في المحراب ثم أن الغلام ارتمى عليه وصار يبوسه بين عينيه فقال له: يا ولدي أخز عنك الشيطان وعليك بطاعة الرحمن فقال له: أن لم تفعل بي ما أريد أنادي أبي وأقول له: أن الدرويش يريد أن يفعل بي الفاحشة فيدخل عليك ويضربك حتى يكسر عظمك على لحمك، كل هذا وأبوه ينظر بعينيه ويسمع بأذنيه فثبت عند أبا الولد أن الدرويش ما عنده فساد وقال في نفسه: لو كان هذا الدرويش مفسداً ما كان يتحمل هذه المشقة كلها.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 934
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 935
ثم أن الولد صار يحاول الدرويش ولكما نوى الصلاة قطعها عليه حتى اغتاظ الدرويش غاية الغيظ على الولد وضربه فبكى الولد فدخل عليه أبوه ومسح دموعه وأخذ بخاطره وقال للدرويش: يا أخي حيث أنك على هذه الحالة لأي شيءٍ تبكي وتتحسر حين رأيت ولدي? فهل لهذا من سبب? فقال له الدرويش: نعم أنا لما رأيتك تبكي عند رؤيته ظننت فيك السوء، فأمرت الولد بهذا الأمر حتى أجربك واضمرت أني إذا رأيتك تطلب منه فاحشةً أدخل عليك وأقتلك فلما رأيتك ما وقع منك عرفت أنك من الصلاح على غايةٍ ولكن بالله عليك أن تخبرني بسبب بكائك، فتنهد الدرويش وقال له: يا سيدي لا تحرك علي ساكن الجراح فقال: لا بد أن تخبرني فقال له: اعلم أنني درويشٌ سياحٌ في البلاد والأقطار لاعتبر بآثار خالق الليل والنهار فاتفق أنني دخلت مدينة البصرة في يوم جمعة ضحوة النهار فرأيت الدكاكين مفتوحةً وفيها من سائر الأصناف والبضائع والمأكول والمشروب وهي خاليةٌ ليس فيها رجلٌ ولا امرأةٌ ولا بنتٌ ولا ولدٌ وليس في الشوارع كلابٌ ولا قططٌ ولا حس حسيسٍ ولا أنس أنيسٍ، فتعجبت من ذلك وقلت: يا ترى أين راح أهل هذه المدينة بقططهم وكلابهم? وما فعل الله بهم? وكنت جائعاً فأخذت عيشاً سخناً من فرن خبازٍ ودخلت دكان زيات وبسست العيش بالسمن والعسل وأكلت وطلعت دكان شرباتٍ فشربت ما أدرت، ورأيت القهوة مفتوحةً فدخلتها ورأيت فيها البكارج على النار ممتلئةً بالقهوة، وليس فيها أحدٌ فشربت كفايتي وقلت: أن هذا الشيء عجيبٌ كأن أهل هذه المدينة أتاهم الموت فماتوا كلهم في هذه الساعة أو خافوا من شيءٍ نزل بهم فهربوا وما قدروا أن يقفلوا دكاكينهم.
فبينما أنا أفكر في هذا الأمر وإذا بصوت نوبةٍ تدق فخفت واختفيت حصةً من الزمان، وصرت أنظر من خلال الخروق فرأيت جوارٍ كأنهن الأقمار قد مشين في السوق زوجاً من غير غطاءٍ بل مكشوفات الوجوه ومن أربعون زوجاً بثمانين جاريةٍ ورأيت وليدةً راكبةً على جوادٍ لا يقدر أن ينقل أقدامه مما عليه وعليها من الذهب والفضة والجواهر وتلك الوليدة مكشوفة الوجه من غير غطاءٍ وهي مزينةٌ بأفخر الزينة ولابسةً أفخر الملبوس وفي عنقها عقدٌ من الجوهر وفي صدرها قلائدٌ من الذهب وفي يديها أساورٌ تضيء كالنجوم وفي رجليها خلاخلٌ من الذهب مرصعةٌ بالمعادن والجواري قدامها وخلفها وعن يمينها وشمالها وبين يديها جاريةٌ مقلدةٌ بسيفٍ عظيمٍ قبضته زمردٌ وعلائقه من ذهبٍ مرصعٍ بالجواهر.
فلما وصلت تلك الصبية إلى الجهة التي قدامي حبست عنان الجواد وقالت: يا بناتي قد سمعت حس شيءٍ في داخل الدكان ففتشنه لئلا يكون فيه أحدٌ مستخف ومراده يتفرج علينا ونحن مكشوفات الوجوه ففتشن الدكان الذي قدام القهوة التي أنا مستخفٌ فيها وبقيت أنا خائفاً فرأيتهن قد خرجن برجل وقلن لها: يا سيدتنا قد رأينا هنا رجل وها هو بين يديك فقالت للجارية التي معها السيف: أرمي عنقه فتقدمت إليه الجارية وضربت عنقه، ثم تركته مطروحاً على الأرض ومضين ففزعت أنا لما رأيت هذه الحالة ولكن تعلق قلبي بعشق الصبية وبعد ساعةٍ ظهر الناس وصار كل من له دكان يدخلها ودرجت الناس في الأسواق والتموا على المقتول يتفرجون عليه فخرجت أنا من المكان الذي كنت فيه سراً ولم ينتبه لي أحداً ولكن تمالك قلبي عشق تلك الصبية فصرت أتجسس عليها سراً فلم يخبرني أحدٌ عنها بخبرٍ، ثم أني خرجت من البصرة وفي قلبي من عشقها حسرةٌ فلما رأيت ابنك هذا رأيته أشبه الناس بتلك الصبية فذكرني بها وهيج علي نار الغرام وأضرم لهيب الهيام وهذا سبب بكائي، ثم أنه بكى بكاءً شديداً ما عليه من مزيدٍ وقال له: يا سيدي بالله عليك أن تفتح لي الباب حتى أروح إلى حال سبيلي ففتح له الباب فخرج. هذا ما كان من أمره.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 935
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 936
وأما ما كان من أمر قمر الزمان فأنه لما سمع كلام الدرويش اشتغل باله بعشق تلك الصبية وتمكن منه الغرام وهاج به الوجد والهيام، فلما أصبح الصباح قال لأبيه: كل أولاد التجار يسافرون البلاد لتحصيل المراد وليس منهم واحدٌ إلا وأبوه يجهز له بضاعةً فيسافر بها ويربح فيها ولاي شيءٍ يا أبي لم تجهز لي تجارة حتى أسافر بها وأنظر سعدي? فقال له: يا ولدي أن التجار مقلون من المال فيسفرون أولادهم لأجل الفوائد والمكاسب وجلب الدنيا، وأما أنا فعندي أموالٌ كثيرةٌ وليس عندي طمعٌ فكيف أغربك وأنا لا أقدر على فراقك ساعةً خصوصاً وأنت فريدٌ في الجمال والحسن والكمال، وأخاف عليك فقال له: يا أبي لا يمكن إلا أن تجهز لي متجراً لأسافر به وإلا أغافلك وأهرب ولو كان من غير مالٍ ولا تجارةٍ وأن أردت تطيب خاطري فجهز لي بضاعةً حتى أسافر وأتفرج على بلاد الناس فلما رآه أبوه متعلقاً بالسفر أخبر زوجته بهذا الخبر وقال له: أن ولدك يريد أن أجهز له متجراً ليسافر به إلى بلاد الغربة كربة فقالت له زوجته: ماذا يضرك من ذلك? أن هذه عادة أولاد التجار فكلهم يتفاخرون بالأسفار والمكاسب فقال له: إن غالب التجار فقراء يطلبون كثرة الأموال وأما أنا فمالي كثيرٌ فقالت له: زيادة الخير لا تضر وأن كنت أنت لا تسمح له بذلك فأنا أجهز له متجراً من مالي، فقال التاجر: أني أخاف من الغربة لأنها بئست الكربة، قالت: لا بأس بالإغتراب الذي فيه الإكتساب ولا يذهب ولدنا ونطلبه فلا نراه ونفتضح بين الناس فقبل التاجر كلام زوجته وجهز متجراً للولد بتسعين ألف دينارٍ وأعطته أمه كيساً فيه أربعون فصاً من ثمين الجواهر أقل قيمة الواحد خمسمائة دينارٍ، وقالت: يا ولدي احتفظ بالجواهر فأنها تنفعك فأخذ قمر الزمان جميع ذلك وسافر إلى البصرة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والستين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان أخذ جميع ذلك وسافر إلى البصرة وكان قد وضع الجواهر في كمرٍ وشده على وسطه ولم يزل مسافراً حتى لم يبق بينه وبين البصرة إلا مرحلةً واحدةً فخرج عليه العرب وعروه وقتلوا رجاله وخدمه فرقد بين قتيلين ولطخ روحه بالدم فظن العرب أنه مقتول فتركوه ولم يتقرب منه أحدٌ، ثم أخذوا أمواله وراحوا فلما راح العرب إلى حال سبيلهم قام قمر الزمان من بين القتلى ومشى وهو لا يملك شيئاً غير الفصوص التي على حزامه ولم يزل سائراً حتى دخل البصرة فاتفق أن دخوله كان في يوم جمعةٍ وكانت المدينة خاليةً من الناس كما أخبر الدرويش فرأى الأسواق خاليةً والدكاكين مفتوحةً وهي ممتلئةً بالبضائع فأكل وشرب وصار يتفرج.
فبينما هو كذلك إذ سمع النوبة تدق فاختفى في دكانٍ إلى أن جاءت البنات فتفرج عليهن ولما رأى الصبية أخذه العشق والغرام وملكه الوجد والهيام حتى لا يستطيع القيام وبعد حصةٍ من الزمان ظهرت الناس وملأت الأسواق فذهب إلى السوق وتوجه إلى رجلٍ جوهري وأخرج له حجراً من الأربعين يساوي ألف دينارٍ فباعه له ورجع إلى محله، ثم باع أربعة فصوصٍ بأربعة ألاف دينارٍ وصار يتفرج في شوارع البصرة وهو لابسٌ أفخر الملابس حتى وصل إلى سوقٍ فرأى فيه رجلاً مزيناً فدخل عنده وحلق رأسه وعمل معه صاحبه ثم قال له: يا ولدي أنا غريب عن البلاد وبالأمس دخلت هذه المدينة فرأيتها خاليةً من السكان وما فيها أحدٌ من أنسٍ ولا جانٍ ثم أني رأيت بنات بينهن صبيةً راكبةً في موكبٍ وأخبره بما رآه فقال له: يا ولدي هل أخبرت غيري بهذا الخبر? قال: لا، فقال له: يا ولدي إياك أن تذكر هذا الكلام قدام أحد غيري فأن كل الناس لا يكتمون الكلام والأسرار وأنت ولدٌ صغيرٌ فأخاف عليك أن ينقل الكلام من ناسٍ إلى ناسٍ، حتى يصل إلى أصحابه فيقتلونك.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 936
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 937
وأعلم يا ولدي أن هذا الذي رأيته ما أحدٌ رآه ولا يعرفه في غير هذه المدينة وأما أهل البصرة فإنهم يموتون بهذه الحسرة وفي كل يوم جمعةٍ عند ضحوة النهار يحبسون الكلاب والقطط ويمنعونها عن المشي في صأأالأسواق وجميع أهل المدينة يدخلون الجوامع ويغلقون عليهم الأبواب ولا يقدر واحداً منهم أن يمر في السوق ولا أن يطل من طاقةٍ ولا يعرف أحدٌ ما سبب هذه البلية ولكن يا ولدي في هذه الليلة اسأل زوجتي عن سببها فأنها دايةٌ تدخل بيوت الأكابر وتعرف أخبار هذه المدينة فأن شاء الله تعالى تأتي عندي في الغد وأنا أخبرك بما تخبرني به فكبش كبشة وقال له: يا والدي خذ هذا الذهب وأعطه لزوجتك فأنها صارت أمي وكبش كبشةً ثانيةً وقال: خذ هذا لك، فقال المزين: يا ولدي اجلس مكانك حتى أروح إلى زوجتي واسألها وأجيء إليك بالخبر الصحيح، ثم تركه في الدكان وراح إلى زوجته وأخبرها بشأن الغلام وقال له: مرادي أن تخبريني بحقيقة أمر هذه المدينة حتى أخبر بها هذا الشاب التاجر فأنه متولعٌ بالإطلاع على حقيقة أمرها وامتناع الناس والحيوانات عن الأسواق في ضحوة يوم الجمعة وأظن أنه عاشقٌ وهو كريمٌ سخيٌ فإذا أخبرناه يحصل لنا منه خيرٌ كثيرٌ.
فقالت له: رح هاته وقل له: تعال كلم أمك زوجتي فأنها تقرئك السلام وتقول لك: إن الحاجة مقضيةٌ فذهب إلى الدكان فرأى قمر الزمان قاعدٌ النظرة فأخبره بالخبر وقال له: يا ولدي اذهب بنا إلى أمك زوجتي فأنها تقول لك: أن الحاجة مقتضيةٌ، ثم أخذه وسار به حتى دخل على زوجته فرحبت به وأجلسته ثم أنه أخرج مائة دينارٍ وأعطاها لها وقال لها: يا أمي أخبريني عن هذه الصبية من تكون? فقالت: يا ولدي أعلم أن سلطان البصرة قد جاءته الجوهرة من عند ملك الهند فأراد أن يثقبها فأحضر جميع الجواهرجية وقال لهم: أريد منكم أن تثقبوا لي هذه الجوهرة والذي يثقبها له علي تمنيةً فمهما تمناه أعطيته له وأن كسرها فأني أرمي رأسه فخافوا وقالوا: يا ملك الزمان أن الجواهر سريع العطب وقل أن يثقبه أحد ويسلم لأن الغالب عليه الكسر فلا تحملنا ما لا نطيق فنحن لا يخرج من أيدينا أن نثقب هذه الجوهرة وإنما شيخنا أخبر منا فقال للملك: ومن شيخكم? قالوا له: المعلم عبيد وهو أخبر منا بهذه الصناعة، وعنده أموالٌ كثيرةٌ وله معرفةٌ جيدةٌ، فأرسل إليه وأحضره بين يديك وأأمره أن يثقب لك هذه الجوهرة فأرسل إليه وأمره بثقبها وشرط عليه الشرط المذكور فأخذها وثقبها على مزاج الملك فقال: تمن علي يا معلم.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 937
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 938
فقال: يا ملك الزمان أمهلني إلى الغد والسبب في ذلك أنه أراد أن يشاور زوجته وكانت زوجته تلك الصبية التي رأيتها في الموكب وكان يحبها محبةً عظيمةً ومن عظم محبته لها أنه كان لا يفعل شيئاً إلا إذا شاورها فيه ولأجل ذلك أمهل التمنية حتى يشاورها فلما أتى إليها قال لها: أنا ثقبت للملك جوهرةً وأعطاني تمنيةً وقد أمهلته حتى أشاورك فأي شيءٍ تريدين حتى أتمنى? قالت: نحن عندنا أموالٌ لا تأكلها النيران ولكن أن كنت تحبني فتمنى على الملك أنه ينادي في شوارع البصرة فأن أهلها يدخلون الجوامع يوم الجمعة قبل الصلاة بساعتين ولا يبقى في البلد كبيرٌ ولا صغيرٌ إلا ويكون في المسجد أو في البيت وتقفل عليهم أبواب المساجد والبيوت ويتركون دكاكين البلد مفتوحةً وأركب بجواري وأشق في المدينة ولا ينظرني أحدٌ من طاقةٍ ولا من شباكٍ وكل من عثرت به قتلته. فراح إلى الملك وتمنى عليه هذه الأمنية فأعطاه ما تمناه ونادى بين أهل البصرة بما تمناه فقالوا: أننا نخاف على البضائع من القطط والكلاب فأمر الملك بحبسها في ذلك اليوم حتى تخرج الناس من صلاة الجمعة وصارت تلك الجارية تخرج في كل يوم جمعةٍ قبل الصلاة بساعتين وتركب بجواربها في شوارع البصرة ولا يقدر أحدٌ أن يمر في السوق ولا أن يطل من طاقةٍ ولا من شباكٍ فهذا هو السبب وقد عرفتك بالجارية ولكن يا ولدي هل مرادك معرفة خبرها أو مرادك الاجتماع بها? فقال: يا أمي مرادي الاجتماع بها، فقالت: أخبرني بما عندك من الذخائر الفاخرة فقال: يا أمي عندي من ثمين المعادن أربعة أصنافٍ صنف ثمن كل منه خمسمائة دينارٍ وصنف ثمن كل واحدٍ منه سبعمائة دينارٍ وصنف ثمن كل واحدٍ منه ثمانمائة دينارٍ وصنف كل واحدٍ منه ألف دينارٍ، قالت له: تسمح نفسك بأربعة منهم? قال: نفسي تسمح بالجميع فقالت: قم يا ولدي من غير مطرود وأخرج فصاً منها يكون ثمنه خمسمائة دينارٍ واسأل عن دكان المعلم عبيد شيخ الجواهرجية واذهب إليه تراه جالساً في دكانه وعليه ثيابٌ فاخرةٌ وتحت يده الصناع فسلم عليه وأجلس في الدكان وأخرج الفص وقل له: يا معلم خذ هذا الحجر واصنع لي خاتماً بالذهب ولا تجعله كبيراً بل أجعله على قدر مثقالٍ من غير زيادةٍ وأصنعه صنعاً جيداً ثم أعطه عشرين ديناراً وأعط الصناع كل واحدٍ ديناراً وأقعد عنده حصةً وتحدث معه وإذا أتاك سائلٌ فأعطه ديناراً وأظهر الكرم حتى يتولع بمحبتك ثم قم من عنده ورح إلى منزلك وبت هناك فإذا أصبحت فهات معك مائة دينارٍ وأعطها لأبيك فأنه فقير الحال قال: وهو كذلك، ثم خرج من عنده وذهب إلى الوكالة وأخذ فصاً ثمنه خمسمائة دينار وعمد به إلى سوق الجواهر وسأل عن دكان المعلم عبيد شيخ الجوهرية فدلوه على دكانه فلما وصل إلى الدكان رأى شيخ الجوهرية رجلاً مهاباً وعليه ثيابٌ فاخرةٌ وتحت يده أربعة صناعٍ فقال لهم: السلام عليكم فرد عليه السلام ورحب به وأجلسه فلما جلس أخرج له الفص وقال له: يا معلم أريد منك أن تصوغ لي هذا الحجر خاتماً بالذهب ولكن اجعله على قدر مثقالٍ من غير زيادةٍ وصغه صياغةً طيبةً ثم أخرج له عشرين ديناراً وقال له: خذ هذه في نظير نقشه الأجرة باقيةٌ ثم أعطى كل صانع ديناراً فأحبه الصناع وأحبه المعلم عبيد وقعد يتحدث معه وصار كل من أتاه من السائلين يعطيه ديناراً فتعجبوا من كرمه ثم أن المعلم عبيد كان عنده عدةً في بيته مثل العدة التي في الدكان وكان من عادته أنه إذا أراد أن يصنع شيئاً غريباً يشتغله في بيته حتى أن الصناع لا يتعلمون منه الصنعة الغريبة وكانت الصبية زوجته تجلس قدامه فإذا كانت قدامه ونظر إليها يصنع لك شيءٌ غريبٌ صناعته بحيث لا يليق إلا بالملوك فقعد يصنع هذا الخاتم صنعةً عجيبةً في البيت فلما رأته زوجته قالت: ما مرادك أن تصنع بهذا الفص? قال: أريد أن أصوغه خاتماً بالذهب فأن ثمنه خمسمائة دينارٍ فقالت له: لمن? قال: لغلامٍ تاجرٍ جميل الصورة له عيونٌ تجرح وخدودٌ تقدح وله فمٌ كخاتم سيدنا سليمان ووجنتان كشقائق النعمان وشفائف حمرٍ كالمرجان وله عنقٌ مثل أعناق الغزلان وهو أبيضٌ مشربٌ بحمرة ظريفٍ، لطيفٍ، كريمٍ فعل كذا وكذا وصار تارةً يصف لها حسنه وجماله وتارةً يصف لها كرمه وكماله وما زال يذكر لها محاسنه وكرم أخلاقه حتى عشقها فيه ولم يكن أحدٌ أعرض من الذي يصف لزوجته إنساناً بالحسن
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 938
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 939
والجمال وفرط سخائه بالمال.جمال وفرط سخائه بالمال.
فلما أفاض منها الغرام قالت له: هل يوجد فيه شيء من محاسني? فقال لها: جميع محاسنك كلها فيه وهو شبيهك في الصفة وربما كان عمره قدر عمرك ولولا أني أخاف على خاطرك لقلت: أنه أحسن منك ألف مرةٍ فسكتت ولكن التهبت نار محبته في قلبها ثم أن الصائغ لم يزل يتحدث معها في تعداد محاسنه حتى فرغ من صياغة هذا الخاتم وناوله لها فلبسته فجاء على قدر إصبعها فقالت له: يا سيدي أن قلبي حب هذا الخاتم وأشتهي أن يكون لي ولا أنزعه من إصبعي، فقال لها: اصبري فأن صاحبه كريمٌ وأنا أطلب أن أشتريه منه فأن باعني إياه جئت به إليك وأن كان عنده حجرا آخر اشتريه لك وأصوغه مثله.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والستين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجوهري قال لزوجته: اصبري فأن صاحبه كريمٌ وأنا أطلب أن اشتريه منه فأن باعني إياه جئت به إليك وأن كان عنده حجرٌ آخر اشتريه وأصوغه لك مثله، هذا ما كان من أمر الجوهري وزوجته.
وأما ما كان من أمر قمر الزمان فأنه بات في منزله فلما أصبح أخذ مائة دينارٍ وأتى إلى العجوز زوجة المزين وقال لها: خذي هذه المائة دينارٍ فقالت له: أعطيها لأبيك فأعطاها له ثم أنها قالت له: هل فعلت كما قلت? قال: نعم قالت له: قم وتوجه الآن إلى شيخ الجوهرية فإذا أعطاك الخاتم فضعه في رأس إصبعك وانزعه بسرعةٍ وقل له: يا معلم أخطأت أن الخاتم جاء ضيقاً فيقول لك: يا تاجر هل أكسره وأصوغه واسعاً? فقل له: ما أحتاج إلى كسره وصياغته ثانياً ولكن خذه وأعطه لجارية من جواريك وأخرج له حجراً آخر يكون ثمنه سبعمائة دينارٍ وقل له: خذ هذا الحجر صنعه لي فأنه أحسن من ذلك وأعطه ثلاثين ديناراً وأعط لكل صانعٍ دينارين وقل له: هذه الدنانير في نظير نقشه والأجرة باقيةٌ ثم أرجع إلى منزلك وبت هناك وتعالى في الصباح ومعك مائتا دينارٍ وأنا أكمل لك بقية الحيلة.
ثم أنه ذهب إلى الجوهري فرحب به وأجلسه على الدكان فلما جلس قال له: هل قضيت الحاجة? قال: نعم وأخرج له الخاتم فأخذه وحطه في رأس إصبعه ثم نزعه سريعاً وقال له: أخطأت يا معلم ورماه له وقال له: أنه ضيق على إصبعي فقال له الجوهري: يا تاجر هل أوسعه لك? قال: لا، ولكن خذه إحسانا وألبسه لبعض جواريك فأن ثمنه تافهٌ لأنه خمسمائة دينارٍ فلا يحتاج إلى صياغته ثانياً ثم أخرج له فصاً آخر ثمنه سبعمائة دينارٍ وقال له: اصنع هذا الخاتم ثم أعطاه ثلاثين ديناراً وأعطى كل صانعٍ دينارين فقال له: يا سيدي لما تصوغ الخاتم تأخذ أجرته قال: هذه في نظير نقشه والأجرة باقية ثم تركه ومضى فاندهش الجوهري من شدة كرم قمر الزمان وكذلك الصناع ثم أن الجوهري ذهب إلى زوجته وقال لها: يا فلانة ما رأت عيني أكرم من هذا الشاب وأنت بختك طيبٌ لأنه أعطاني الخاتم بلا ثمنٍ وقال لي: أعطه لبعض جواريك وحكى لها القصة.
ثم قال لها: أظن أن هذا الولد ما هو من أولاد التجار وإنما هو من أولاد الملوك والسلاطين وصار كلما مدحه تزداد فيه غراماً ووجداً وهياماً ثم لبست الخاتم والجوهري صاغ له الثاني أوسع من الأول بقليل فلما فرغ من صناعته لبسته في إصبعها من داخل الخاتم الأول ثم قالت: يا سيدي انظر ما أحسن الخاتمين في إصبعي فأشتهي أن يكون الخاتمان لي فقال لها: اصبري لعلي اشتري الثاني لك ثم بات فلما أصبح أخذ الخاتم وتوجه إلى الدكان. هذا ما كان من أمره.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 939
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 940
وأما ما كان من أمر قمر الزمان فأنه أصبح متوجهاً إلى العجوز زوجة المزين وأعطاها مائتي دينار فقالت له: توجه إلى الجوهري فإذا أعطاك الخاتم فضعه في إصبعك وانزعه سريعاً وقل أخطأت يا معلم أن الخاتم جاء واسعاً والمعلم الذي يكون مثلك إذا أتاه مثلي بشغلٍ ينبغي له أن يأخذ القياس فلو كنت أخذت قياس إصبعي ما أخطأت وأخرج له حجراً آخر يكون ثمنه ثمانمائة دينارٍ وقل له: خذ هذا اصنعه وأعط هذا الخاتم إلى جاريةٍ من جواريك ثم أعطه أربعين ديناراً وأعط كل صانع ثلاثة دنانيرٍ وقل له: هذا في نظير نقشه وأما الأجرة فأنها باقيةٌ وانظر ماذا يقول لك ثم تعال ومعك ثلثمائة دينارٍ وأعطها لأبيك يستعين بها على وقته فأنه رجلٌ فقير الحال، فقال سمعاً وطاعةً ثم أنه توجه إلى الجوهري فرحب به وأجلسه ثم أعطاه الخاتم فوضعه في إصبعه ونزل به بسرعةٍ وقال له: ينبغي للمعلم الذي مثلك إذا أتاه مثلي بشغلٍ أن يأخذ قياسه فلو كنت أخذت قياس إصبعي ما أخطأت ولكن خذه وأعطه لبعض جواريك ثم أخرج له حجراً ثمنه ثمانمائة دينارٍ وقال له: خذ هذا وأصنعه لي خاتماً على قدر إصبعي.
فقال: صدقت والحق معك فأخذ القياس وأخرج له أربعين ديناراً وقال له: خذ هذه في نظير نقشه والأجرة باقيةٌ فقال له: يا سيدي كم أجرة هذا أخذناها منك فإحسانك علينا كثيرٌ فقال له: لا بأس ثم أنه تحدث معه حصة وصار كلما يمر به سائل يعطيه ديناراً وبعد ذلك تركه وانصرف. هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر الجوهري فأنه توجه إلى بيته وقال لزوجته: ما أكرم هذا الشاب التاجر فما رأيت أكرم منه وأجمل منه ولا أحلى من لسانه وصار يذكر لها محاسنه وكرمه ويبالغ في مدحه.
فقالت له: يا عديم الذوق حيث كنت تعرف فيه هذه الصفات وقد أعطاك خاتمين مثمنين ينبغي لك أن تعزمه وتعمل له ضيافةً وتتودد إليه فإذا رأى منك المودة وجاء منزلنا ربما تنال منه خيراً كثيراً وأن كنت لا تسمح له بضيافة فأعزمه وأنا أعمل له الضيافة من عندي، فقال لها هل أنت تعرفين أنني بخيلٌ حتى تقولي هذا الكلام? قالت له: ما أنت بخيلٌ ولكنك عديم الذوق فأعزمه في هذه الليلة ولا تجيء بدونه وأن أمتنع فأحلف بالطلاق وأكد عليه، فقال لها: على الرأس والعين? ثم أنه صاغ الخاتم ونام وأصبح في ثاني يوم متوجهاً إلى الدكان وجلس فيها. هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر قمر الزمان فأنه أخذ ثلثمائة دينارٍ وتوجه إلى العجوز وأعطاها لزوجها فقالت له: ربما يعزم عليك في هذا اليوم فإذا عزم عليك وبت عنده فمهما جرى لك فأخبرني به في الصباح وهات معك أربعمائة دينارٍ وأعطها لأبيك فقال سمعاً وطاعةً، وصار كلما فرغت منه الدراهم يبيع من الأحجار، ثم أنه توجه إلى الجوهري فقام له وأخذه بالأحضان وسلم عليه وعقد معه صحبةً، ثم أنه أخرج الخاتم فرآه على قدر إصبعه فقال له: بارك الله فيك يا سيد المعلمين أن الصياغة موافقةٌ، ولكن الفص ليس على مرادي، لأن عندي أحسن منه فخذه وأعطه لبعض جواريك وأخرج لي غيره، وأخرج له مائة دينارٍ وقال له: خذ أجرتك ولا تؤاخذنا فأننا تعبناك، فقال له: أن الذي تعبنا فيه قد أعطيتنا إياه وتفضلت علينا بشيءٍ كثيرٍ وأنا قلبي تعلق بحبك ولا أقدر على فراقك، فبالله عليك أن تكون ضيفي في هذه الليلة وتجبر خاطري.
فتوجهت إليها ثم عادت وأخبرتها أنها تقول: متعني الله بطول حياتك وجعلني فداك الله لو دعوتيني إلى غير ما توقفت لكن يضرني صداع الخليفة وأنت تعلمين منزلتي عنده، فقالت للجارية: أرجعي إليها وقولي لها: أنه لا بد من حضورك لسرٍ بينك وبينها، فتوجهت إليها الجارية وبعد ساعةٍ جاءت الجارية ووجهها يضيء كأنه البدر فقابلتها واعتنقتها وقالت: يا أبا الحسن أخرج إليها وقبل يديها.
وكنت في مخدعٍ في داخل الحجرة فخرجت إليها يا أمير المؤمنين فلما رأتني ألقت نفسها علي وضمتني إلى صدرها وقالت لي: كيف صرت بلباس الخليفة وزينته وبخوره? ثم قالت: حدثني بما جرى لك، فحدثتها بما جرى لي وبما قاسيته من الخوف وغيره فقالت: يعز عليَّ ما قاسيته من أجلي والحمد لله الذي جعل العاقبة إلى السلامة وتمام السلامة دخولك في منزلي ومنزل أختي.
ثم أخذتني إلى حجرتها وقالت لأختها: أني قد عاهدته أن لا أجتمع معه في الحرام ولكن كما خاطر بنفسه وارتكب هذا الهول لأكونن أرضاً لوطء قدميه وتراباً على نعليه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والستين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت لأختها: أني قد عاهدته أني لا أجتمع معه في الحرام ولكن كما خاطر بنفسه وارتكب هذه الأهوال لأكونن أرضاً لوطء قدميه وتراباً لنعليه، فقالت لها أختها: بهذه النية تجاه الله تعالى فقالت: سوف ترين ما أصنع حتى اجتمع معه في الحلال، فلا بد أن أبذل مهجتي في التحيل.
فبينما نحن في الحديث وإذا بضجةٍ عظيمةٍ فالتفتنا فرأينا الخليفة قد جاء يريد حجرتها من كثرة ما هو كلفٌ بها فأخذتني يا أمير المؤمنين ووضعتني في سردابٍ وطبقته علي وخرجت تقابل الخليفة فلاقته ثم جلس فوقفت بين يديه وخدمته ثم أمرت بإحضار الشراب، وكان الخليفة يحب جاريةً اسمها البنجة وهي أم المعتز بالله وكانت الجارية قد هجرته وهجرها فلعز الحسن والجمال تصالحه والمتوكل لعزة الخلافة والملك لا يصالحها ولا يكسر نفسه لها مع أن في قلبه منها لهيب النار ولكنه تشاغل عنها بنظائرها من الجواري والدخول إليهن في حجراتهن، وكان يحب غناء شجرة الدر فأمرها بالغناء وتناولت العود وشدت الأوتار وغنت بهذه الأشعار: عجبت لسعي الدهر بيني وبينهـا فلما انقضى ما بيننا سكن الدهـر
هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى وزرتك حتى قيل ليس له صبـر
فيا حبها زدني جـوىً كـل لـيلةٍ ويا سلوة الأيام موعدك الحشـر
لها بشرٌ مثل الحرير ومنـطـقٌ رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر
وعينان قال الله كونا فـكـانـتـا فعولان بالألباب ما يفعل السحـر
فلما سمعها الخليفة طرب طرباً شديداً وطربت أنا يا أمير المؤمنين في السرداب، ولولا لطف الله تعالى لصحت وافتضحنا، ثم أنشدت هذه الأبيات: أعانقه والنفس بعـد مـشـوقةٌ إليه وهل بعد العنـاق تـدانـي
وألثم فاه كي تزول حـرارتـي فيشتد ما ألقى من الـهـيمـان
كأن فؤادي ليس يبري غلـيلـه سوى أن ترى الروحان يمتزجان
فطرب الخليفة وقال: تمني عليَّ يا شجرة الدر فقالت: أتمنى عليك عتقي يا أمير المؤمنين لما فيه الثواب فقال: أنت حرةٌ لوجه الله تعالى فقبلت الأرض بين يديه فقال: خذي العود وقولي لنا شيئاً في شأن جاريتي التي أنا متعلقٌ بهواها والناس تطلب رضاي وأنا أطلب رضاها، فأخذت العود وأنشدت هذين البيتين: أيا ربة الحسن التي اذهبت نسكي على كل أحوالي فلا بد لي منك
فأما بذل وهو أليق بـالـهـوى وأما بعزٍ وهو أليق بالـمـلـك
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 930
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 931
فطرب الخليفة وقال: خذي العود وغني شهراً يتضمن شرح حال مع ثلاث جوار ملكن قيادي ومنعن رقادي وهن: أنت وتلك الجارية أهاجرة وأخرى لا أسميها لها مناظرة، فأخذت العود، وأطربت بالنغمات، وأنشدت هذه الأبيات: ملك الثلاث الغانيات عنانـي وحللن من قلبي أعز مكـان
ما لي مطاوع في البرية كلها وأطيعن وهو في عصيانـي
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى وبه غلبن أعز من سلطاني
فتعجب الخليفة من موافقة هذا الشعر لحاله غاية العجب ومال به إلى مصالحة الجارية الهاجرة الطرب ثم خرج وقصد حجرتها فسبقته جاريةٌ وأخبرتها بقدوم الخليفة فأستقبلته وقبلت الأرض بين يده ثم قبلت قدميه فصالحها وصالحته. هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر شجرة الدر فأنها جاءت إلي وهي فرحانةٌ وقالت: أني صرت حرةً بقدومك المبارك ولعل الله يعينني على ما أدبره حتى اجتمع بك في الحلال فقلت: الحمد لله.
فبينما نحن في الحديث وإذا بخادمها قد دخل علينا فحدثناه بما جرى لنا فقال: الحمد لله الذي جعل آخره خيراً ونسأل الله أن يتم ذلك بخروجك سالماً فبينما نحن في الحديث وإذا بالجارية أختها وقد جاءت وكان اسمها فاتر فقالت: يا أختي كيف نعمل حتى نخرجه من القصر سالماً فأن الله تعالى منَّ علي بالعتق وصرت حرةً ببركة قدومه فقالت لها: ليس لي حيلةٌ في خروجه إلا بأن ألبسه ثياب النساء ثم جاءت ببدلةٍ من ثياب النساء فألبستني إياها ثم خرجت يا أمير المؤمنين في ذلك الوقت فلما جئت إلى وسط القصر إذا بأمير المؤمنين جالسٌ والخدم بين يديه فنظر إلي وأنكرني غاية الإنكار وقال لحاشيته: اسرعوا ائتوني بهذه الجارية فلما أتوا بي رفعوا نقابي فلما رآني عرفني وسألني فأخبرته بالخبر ولم أخف عليه شيئاً فلما سمع حديثي تفكر في أمري ثم قام من وقته وساعته ودخل حجرة شجرة الدر فقال: كيف تختارين علي بعض أولاد التجار? فقلبت الأرض بين يديه وحدثته بحديثها من أوله إلى آخره على وجه ثم انصرف ودخل عليها خادمها وقال: طيبي نفساً أن صاحبك لما حضر بين يدي الخليفة سأله فأخبره كما أخبرته حرفاً بحرفٍ ثم رجع الخليفة وأحضرني بين يديه وقال: ما حملك على التجارة على دار الخلافة? فقلت: يا أمير المؤمنين حملني على ذلك جهلي والصبابة والإقبال على عفوك وكرمك ثم بكيت وقلبت الأرض بين يديه فقال: عفوت عنكما ثم أمرني بالجلوس فجلست فدعا بالقاضي أحمد ابن أبي داؤد وزوجني بها وأمر بحمل جميع ما عندها إلي وزفوها علي في حجرتها.
وبعد ثلاثة أيامٍ خرجت ولقيت جميع ذلك إلى بيتي فجميع ما تنظره يا أمير المؤمنين في بيتي وتنكره كله من جهازها ثم أنها قالت لي يوماً من الأيام: اعلم أن المتوكل رجلٌ كريمٌ وأخاف أن يتذكرنا أو يذكرنا عنده أحدٌ من الحساد فأريد أن أعمل شيئاً يكون فيه الخلاص من ذلك قلت: وما هو? قالت: أريد أن استأذنه في الحج والتوبة من الغناء فقلت لها: نعم الرأي الذي أشرت إليه فبينما نحن في الحديث وإذا برسول الخليفة قد جاء في طلبها لأنه كان يحب غناءها فمضت وخدمته فقال لها: لا تنقطعي عنا فقالت سمعاً وطاعةً فاتفق أنها ذهبت إليه في بعض الأيام وكان قد أرسل إليها على جري العادة فلم أشعر إلا وقد جاءت من عنده ممزقة الثياب باكية العين ففزعت من ذلك، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون وتوهمت أنه أمر بالقبض علينا فقلت لها: هل المتوكل غضب علينا? فقالت: وأين المتوكل? أن المتوكل قد انقضى حكمه وانحى رسمه فقلت: أخبريني بحقيقة الأمر فقالت له: أنه كان جالساً خلف الستارة يشرب وعنده الفتح بن خافان وصدقة بن صدقة فهجم عليه ولده المنتصر هو وجماعته من الأتراك فقتله وانقلب السرور بالشرور والخد الجميل بالبكاء والعويل فهربت أنا والجارية وسلمنا الله.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 931
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 932
ثم قمت في الحال يا أمير المؤمنين وانحدرت إلى البصرة وجاءني الخبر بعد ذلك بوقوع فتنةٍ بين المنتصر والمستعين فخفت ونقلت زوجتي وجميع مالي إلى البصرة. وهذه حكايتي يا أمير المؤمنين لا زدتها حرفاً ولا نقصتها حرفاً فجميع ما نظرته في بيتي يا أمير المؤمنين مما عليه اسم جدك المتوكل هو من نعمته علينا لأن أصل نعمتنا من أصول الأكرمين وأنتم أهل النعم ومعدن الكرم ففرح الخليفة بذلك فرحاً عظيماً وتعجب من حديثه ثم أخرجت للخليفة الجارية وأولادي منها فقبلوا الأرض بين يديه فتعجب من جمالها واستدعى بدواة وقرطاس وكتب لنا برفع الخراج من أملاكنا عشرين سنةً ثم خرج الخليفة واتخذه نديماً إلى أن فرق الدهر بينهم وسكنوا القبور بعد القصور وسبحان الملك الغفور.
حكاية قمر الزمان مع معشوقته
ومما يحكى أيضاً أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان رجلٌ تاجرٌ اسمه عبد الرحمن قد رزقه الله بنتاً وولداً فسمى البنت كوكب الصباح لشدة حسنها وجمالها وسمى الولد قمر الزمان لشدة حسنه ولما نظر ما أعطاهما الله من الحسن والجمال والبهاء والاعتدال خاف عليهما من أعين الناظرين وألسنة الحاسدين ومكر الماكرين وتحيل الفاسقين فحجبهما عن الناس في قصرٍ مدة أربعة عشر سنةً ولم يرهما أحدٌ غير والديهما وجاريةٌ تتعاطى خدمتهما وكان والدهما يقرأ القرآن كما أنزله الله وكذلك أمهما تقرأ القرآن فصارت الأم تقريئ ابنتها والرجل يقرئ ولده حتى حفظا القرآن وتعلما الخط والحساب والفنون والآداب من والديهما ولم يحتاجا إلى معلمٍ فلما بلغ الولد مبلغ الرجال قالت المرأة لزوجها التاجر: إلى متى وأنت حاجب ولدك قمر الزمان عن أعين الناس? أهو بنتٌ أم غلامٌ? فقال لها: غلامٌ، قالت: حيث كان غلاماً لم لا تأخذه معك إلى السوق وتقعده في الدكان حتى يعرف الناس ويعرفوه لأجل أن يشتهر عندهم أنه ابنك وتعلمه البيع والشراء وربما يحصل لك أمر فيكون الناس قد عرفوا أنه ولدك فيضم يده على مخلفاتك وأما إذا مت على هذه الحالة وقال للناس أنا ابن التاجر عبد الرحمن فأنهم لا يصدقونه بل يقولون: ما رأيناك ولا نعرف أن له ولداً وتأخذ أموالك الحكام ويصير ولدك محروماً وكذلك البنت، مرادي أن أشهرها عند الناس لعل أحداً يكون كفؤاً لها يخطبها فنزوجها له ونفرح بها فقال لها: إنما فعلت ذلك مخافةً عليهما من أعين الناس.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والستين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زوجة التاجر لما قالت له ذلك الكلام قال لها: إنما فعلت ذلك مخافةً عليهما من أعين الناس لأني محبٌ لهما والمحب شديد الغيرات وقد أحسن قول من قال هذه الأبيات: أغار عليك من نظري ومني ومنك ومن مكانك والزمان
ولو أني وضعتك في عيوني دوماً ما سئمت من التداني
ولو واصلتني في كـل يومٍ إلى يوم القيامة ما كفانـي
فقالت له زوجته: توكل على الله ولا بأس على من يحفظه الله وخذه في هذا اليوم معك إلى الدكان ثم أنها ألبسته بدلةً من أفخر الملابس فصار فتنةً للناظرين وحسرةً في قلوب العاشقين وأخذه أبوه معه ومضى به إلى السوق فصار كل من رآه يفتتن به ويتقدم إليه ويبوس يده ويسلم عليه وصار أبوه يشتم الناس حيث يتبعنه لقصد الفرجة وصار البعض من الناس يقول: أن الشمس قد طلعت في المحل الفلاني وأشرقت في السوق، والبعض يقول: مطلع البدر في الجهة الفلانية والبعض يقول: ظهر هلال العيد على عباد الله وصاروا يلمحون إلى الولد بالكلام ويدعون له وقد حصل لأبيه خجلٌ من كلام الناس ولا يقدر أن يمنع أحداً منهم عن الكلام وصار يشتم أمه ويدعو عليها لأنها هي التي كانت سبباً في خروجه والتفت أبوه فرأى الخلائق مزدحمين عليه خلفه وقدامه وهو ماشٍ إلى أن وصل إلى الدكان ففتح الدكان وجلس وأجلس ولده قدامه والتفت إلى الناس فرآهم قد سدوا الطريق وصار كل من مر به من رائحٍ وغادٍ يقف قدام الدكان وينظر إلى ذاك الوجه الجميل ولا يقدر أن يفارقه وانعقد عليه اجماع النساء والرجال متمثلين بقول من قال: خلقت الجمال لنا فـتـنةً وقلت لنا يا عبدي أتقون
وأنت جميلٌ تحب الجمال فكيف عبادك لا يعشقون
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 932
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 933
فلما رأى التاجر عبد الرحمن الناس مزدحمين عليه وواقفين صفوفاً نساءً ورجالاً لديه شاخصين لولده خجل غاية الخجل وصار متحيراً في أمره ولم يدر ماذا يصنع فلم يشعر إلا ورجلٌ درويشٌ من السياحين وعليه شعار عباد الله الصالحين وقد أقبل عليه من طرف الشوق ثم تقدم إليه التاجر وصار ينشد الأشعار ويرخي الدموع الغزار فلما رأى قمر الزمان كأنه قضيب البان نابتٌ على قضيبٍ من الزعفران أفاض دمع العين وأنشد هذين البيتين: رأيت غصناً على كئيب شبيه بـدرٍ إذا تـلألأ
فقلت ما الاسم قال لولو فقلت لي لي فقال لا لا
ثم أن الدرويش صار يمشي الهوينا ويمسح شيبته بيده اليمنى فانشق لهيبته قلب الرخام، فلما نظر إلى الغلام اندهش منه العقل والنظر وانطبق عليه قول الشاعر: فبينما ذاك المليح فـي مـحـلٍ من وجهه هلال عيد الفطر هل
إذا بشيخٍ ذي وقـار قـد أهـل معتمداً في مشيه على مـهـل
يرى عـلـيه أثـر الـزهـد
قد مارس الأيام والليالي وخاض في الحرام والـحـلال
وهام بالـنـسـاء والـرجـال ورق حتى صار كـالـحـلال
وعاد عظماً بالباقـي جـلـد
وكان في ذا الفن مغربياً الشـيخ عـنـده يرى صـبـيا
وفي محبة الـنـسـاء عـذرياً في الخصلتين مـاهـراً عـويا
فزينـب لـديه مـثــل زيد
يهيم بالحسنا ويهوى الحسنا ويندب الربع ويبكي الـدمـنـا
تخاله من فرط شوقٍ غصـنـا مع الصبا إلى هناك أو هـنـا
إن الجمود من طباع الصـلـد
وكان في فن الهوى خبيراً مستيقظاً في أمـره بـصـيرا
وجاب منه السهل والعـسـيرا وعانق الظـبـية والـغـريرا
وهام بالشيب معاً والـمـراد
ثم تقدم إلى الولد وأعطاه عرق ريحانٍ فمد أبوه يده إلى جيبه وأخرج له ما تيسر من الدراهم وقال: خذ نصيبك يا درويش واذهب إلى حال سبيلك فأخذ منه الدرويش الدراهم وجلس على مصطبة الدكان قدام الولد وصار ينظر إليه ويبكي ويتحسر حسراتٍ متتابعةٍ ودموعه كالعيون النابعة فصارت الناس تنظر إليه وتعترض عليه وبعضهم يقول: كل الدراويش فساق وبعضهم يقول: أن الدرويش في قلبه من عشق الولد احتراق، وأما أبوه فأنه لما عاين هذا الحال قام وقال: قم يا ولدي حتى نقفل الدكان ونروح إلى بيتنا ولا ينبغي لنا في هذا اليوم بيعٌ ولا شراءٌ الله تعالى يجازي أمك بما فعلت معنا فأنها هي التي تسببت في هذا كله، ثم قال: يا درويش قم حتى أقفل الدكان، فقام الدرويش وقفل التاجر دكانه وأخذ ولده ومشى فتبعهما الدرويش والناس إلى أن وصلا إلى منزلهما فدخل الولد المنزل والتفت التاجر إلى درويش وقال له: ما تريد يا درويش? وما لي أراك تبكي? فقال: يا سيدي أريد أن أكون ضيفك في هذه الليلة والضيف ضيف الله تعالى فقال التاجر: مرحباً بضيف الله ادخل يا درويش.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والستين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الدرويش لما قال للتاجر والد قمر الزمان: أنا ضيف الله قال التاجر: مرحباً بضيف الله، أدخل يا درويش وقال التاجر في نفسه: إذا كان هذا الدرويش عاشقاً للولد وطلب منه فاحشةً فلا بد أن أقتله في هذه الليلة وأخفي قبره وأن كان ما عنده فسادٌ فإن الضيف يأكل نصيبه.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 933
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 934
ثم أنه أدخل الدرويش هو وقمر الزمان قاعةً وقال لابنه قمر الزمان: سر يا ولدي واجلس بجانب الدرويش وناغشه ولاعبه بعد أن أخرج من عندكما فأن طلب منك فساداً فأنا أكون ناظراً لكما من الطاقة المطلة على القاعة فأنزل إليه وأقتله، ثم أن الولد لما اختلى به درويش في تلك القاعة وقعد بجانبه فصار الدرويش ينظر إليه ويتحسن ويبكي وإذا كلمه الولد يرد عليه برفقٍ وهو يرتعش ويلتفت إلى الولد ويتنهد ويبكي إلى أن أتى العشاء فصار يأكل وعينه على الولد ولا يفتر عن البكاء فلما مضى ربع الليل وفرغ الحديث وجاء وقت النوم قال أبو الولد: يا ولدي تقيد بخدمة عمك الدرويش ولا تخالفه وأراد أن يخرج فقال له الدرويش: يا سيدي خذ ولدك معك أو نم عندنا، قال: لا ها هو ولدي نائماً عندك ربما تشتهي نفسك شيئاً فولدي يقضي حاجتك ويقوم بخدمتك، ثم خرج وخلاهما وقعد في قاعةٍ ثانيةٍ فيها طاقةٌ تطل على القاعة التي هما فيها هذا ما كان من أمر التاجر.
وأما ما كان من أمر الولد فأنه تقدم إلى الدرويش وصار يناغشه ويعرض عليه نفسه فاغتاظ الدرويش وقال له: ما هذا الكلام يا ولدي? أعوذ بالله من الشيطان الرجيم اللهم أن هذا منكراً لا يرضيك أبعد عني يا ولدي ثم قام الدرويش من مكانه وقعد بعيداً عن الولد فتبعه الولد ورمى روحه عليه وقال له: لأي شيءٍ يا درويش تحرم نفسك من لذة وصالي وأنا قلبي يحبك? فازداد غيظ الدرويش وقال له: أن لم تمتنع عني ناديت أباك وأخبرته بخبرك فقال له: أن أبي يعرف أنني بهذه الصفة ولا يمكن أن يمنعني ولا جبر بخاطري لأي شيء تمتنع عني أما أعجبتك? فقال له: والله يا ولدي ما أفعل ذلك ولو قطعت بالسيوف البواتر وأنشد قول الشاعر: أن قلبي يهوى الملاح ذكوراً وأناثاً ولست بالمـتـوانـي
بل أراهم أصائلاً وبـكـوراً لم أكن لائطاً ولا أنا زانـي
ثم بكى وقال: قم افتح لي الباب حتى أروح إلى سبيلي أنا ما بقيت أنام في هذا المكان ثم قام على قدميه فتعلق به الولد وصار يقول له: انظر لاشراق وجهي وحمرة خدي ولين معاطفي ورقة شفائفي، ثم كشف له عن ساق يخجل الخمر والسلقي ورنا إليه بلحظٍ يعجز السحر والراقي وكان بديع الجمال كثير الدلال كما قال فيه بعض من قال: لم أنسه مذ قام يكشف عامداً عن ساقه كاللؤلؤ الـبـراق
لا تعجبوا من أن تقوم قيامتي إن القيامة يوم كشف الساقي
ثم بين له الغلام صدره وصار يقول له: انظر إلى نهودي فأنها أحسن من نهود البنات وريقي أحلى من السكر النبات فدع الورع والزهادة وخلنا وعليك الأمان من الردى وأترك هذه البلاد فأنها بئست العادة وصارت يريه ما خفي من محاسنه ويبديه ويثني عنان عقله والدرويش لم يلتفت إليه ويخفي وجهه ويقول: أعوذ بالله استح يا ولدي أن هذا الشيء حرامٌ لا أفعله ولا في من النسك والعبادة واغتنم وصالي وتمل بجمالي ولا تخف من الشيء أبدا المنام فشدد عليه الغلام فأنفلت الدرويش وأستقبل القبلة وصار يصلي.
فلما رآه تركه حتى صلى ركعتين وسلم وأراد أن يتقدم إليه فنوى الصلاة مرةً ثانيةً وصلى ركعتين ولم يزل يفعل هكذا ثالثاً ورابعاً وخامساً فقال له الولد: وما هذه الصلاة? هل مرادك أن تطير إلى السحاب أضعت حظنا وأنت طول الليل في المحراب ثم أن الغلام ارتمى عليه وصار يبوسه بين عينيه فقال له: يا ولدي أخز عنك الشيطان وعليك بطاعة الرحمن فقال له: أن لم تفعل بي ما أريد أنادي أبي وأقول له: أن الدرويش يريد أن يفعل بي الفاحشة فيدخل عليك ويضربك حتى يكسر عظمك على لحمك، كل هذا وأبوه ينظر بعينيه ويسمع بأذنيه فثبت عند أبا الولد أن الدرويش ما عنده فساد وقال في نفسه: لو كان هذا الدرويش مفسداً ما كان يتحمل هذه المشقة كلها.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 934
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 935
ثم أن الولد صار يحاول الدرويش ولكما نوى الصلاة قطعها عليه حتى اغتاظ الدرويش غاية الغيظ على الولد وضربه فبكى الولد فدخل عليه أبوه ومسح دموعه وأخذ بخاطره وقال للدرويش: يا أخي حيث أنك على هذه الحالة لأي شيءٍ تبكي وتتحسر حين رأيت ولدي? فهل لهذا من سبب? فقال له الدرويش: نعم أنا لما رأيتك تبكي عند رؤيته ظننت فيك السوء، فأمرت الولد بهذا الأمر حتى أجربك واضمرت أني إذا رأيتك تطلب منه فاحشةً أدخل عليك وأقتلك فلما رأيتك ما وقع منك عرفت أنك من الصلاح على غايةٍ ولكن بالله عليك أن تخبرني بسبب بكائك، فتنهد الدرويش وقال له: يا سيدي لا تحرك علي ساكن الجراح فقال: لا بد أن تخبرني فقال له: اعلم أنني درويشٌ سياحٌ في البلاد والأقطار لاعتبر بآثار خالق الليل والنهار فاتفق أنني دخلت مدينة البصرة في يوم جمعة ضحوة النهار فرأيت الدكاكين مفتوحةً وفيها من سائر الأصناف والبضائع والمأكول والمشروب وهي خاليةٌ ليس فيها رجلٌ ولا امرأةٌ ولا بنتٌ ولا ولدٌ وليس في الشوارع كلابٌ ولا قططٌ ولا حس حسيسٍ ولا أنس أنيسٍ، فتعجبت من ذلك وقلت: يا ترى أين راح أهل هذه المدينة بقططهم وكلابهم? وما فعل الله بهم? وكنت جائعاً فأخذت عيشاً سخناً من فرن خبازٍ ودخلت دكان زيات وبسست العيش بالسمن والعسل وأكلت وطلعت دكان شرباتٍ فشربت ما أدرت، ورأيت القهوة مفتوحةً فدخلتها ورأيت فيها البكارج على النار ممتلئةً بالقهوة، وليس فيها أحدٌ فشربت كفايتي وقلت: أن هذا الشيء عجيبٌ كأن أهل هذه المدينة أتاهم الموت فماتوا كلهم في هذه الساعة أو خافوا من شيءٍ نزل بهم فهربوا وما قدروا أن يقفلوا دكاكينهم.
فبينما أنا أفكر في هذا الأمر وإذا بصوت نوبةٍ تدق فخفت واختفيت حصةً من الزمان، وصرت أنظر من خلال الخروق فرأيت جوارٍ كأنهن الأقمار قد مشين في السوق زوجاً من غير غطاءٍ بل مكشوفات الوجوه ومن أربعون زوجاً بثمانين جاريةٍ ورأيت وليدةً راكبةً على جوادٍ لا يقدر أن ينقل أقدامه مما عليه وعليها من الذهب والفضة والجواهر وتلك الوليدة مكشوفة الوجه من غير غطاءٍ وهي مزينةٌ بأفخر الزينة ولابسةً أفخر الملبوس وفي عنقها عقدٌ من الجوهر وفي صدرها قلائدٌ من الذهب وفي يديها أساورٌ تضيء كالنجوم وفي رجليها خلاخلٌ من الذهب مرصعةٌ بالمعادن والجواري قدامها وخلفها وعن يمينها وشمالها وبين يديها جاريةٌ مقلدةٌ بسيفٍ عظيمٍ قبضته زمردٌ وعلائقه من ذهبٍ مرصعٍ بالجواهر.
فلما وصلت تلك الصبية إلى الجهة التي قدامي حبست عنان الجواد وقالت: يا بناتي قد سمعت حس شيءٍ في داخل الدكان ففتشنه لئلا يكون فيه أحدٌ مستخف ومراده يتفرج علينا ونحن مكشوفات الوجوه ففتشن الدكان الذي قدام القهوة التي أنا مستخفٌ فيها وبقيت أنا خائفاً فرأيتهن قد خرجن برجل وقلن لها: يا سيدتنا قد رأينا هنا رجل وها هو بين يديك فقالت للجارية التي معها السيف: أرمي عنقه فتقدمت إليه الجارية وضربت عنقه، ثم تركته مطروحاً على الأرض ومضين ففزعت أنا لما رأيت هذه الحالة ولكن تعلق قلبي بعشق الصبية وبعد ساعةٍ ظهر الناس وصار كل من له دكان يدخلها ودرجت الناس في الأسواق والتموا على المقتول يتفرجون عليه فخرجت أنا من المكان الذي كنت فيه سراً ولم ينتبه لي أحداً ولكن تمالك قلبي عشق تلك الصبية فصرت أتجسس عليها سراً فلم يخبرني أحدٌ عنها بخبرٍ، ثم أني خرجت من البصرة وفي قلبي من عشقها حسرةٌ فلما رأيت ابنك هذا رأيته أشبه الناس بتلك الصبية فذكرني بها وهيج علي نار الغرام وأضرم لهيب الهيام وهذا سبب بكائي، ثم أنه بكى بكاءً شديداً ما عليه من مزيدٍ وقال له: يا سيدي بالله عليك أن تفتح لي الباب حتى أروح إلى حال سبيلي ففتح له الباب فخرج. هذا ما كان من أمره.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 935
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 936
وأما ما كان من أمر قمر الزمان فأنه لما سمع كلام الدرويش اشتغل باله بعشق تلك الصبية وتمكن منه الغرام وهاج به الوجد والهيام، فلما أصبح الصباح قال لأبيه: كل أولاد التجار يسافرون البلاد لتحصيل المراد وليس منهم واحدٌ إلا وأبوه يجهز له بضاعةً فيسافر بها ويربح فيها ولاي شيءٍ يا أبي لم تجهز لي تجارة حتى أسافر بها وأنظر سعدي? فقال له: يا ولدي أن التجار مقلون من المال فيسفرون أولادهم لأجل الفوائد والمكاسب وجلب الدنيا، وأما أنا فعندي أموالٌ كثيرةٌ وليس عندي طمعٌ فكيف أغربك وأنا لا أقدر على فراقك ساعةً خصوصاً وأنت فريدٌ في الجمال والحسن والكمال، وأخاف عليك فقال له: يا أبي لا يمكن إلا أن تجهز لي متجراً لأسافر به وإلا أغافلك وأهرب ولو كان من غير مالٍ ولا تجارةٍ وأن أردت تطيب خاطري فجهز لي بضاعةً حتى أسافر وأتفرج على بلاد الناس فلما رآه أبوه متعلقاً بالسفر أخبر زوجته بهذا الخبر وقال له: أن ولدك يريد أن أجهز له متجراً ليسافر به إلى بلاد الغربة كربة فقالت له زوجته: ماذا يضرك من ذلك? أن هذه عادة أولاد التجار فكلهم يتفاخرون بالأسفار والمكاسب فقال له: إن غالب التجار فقراء يطلبون كثرة الأموال وأما أنا فمالي كثيرٌ فقالت له: زيادة الخير لا تضر وأن كنت أنت لا تسمح له بذلك فأنا أجهز له متجراً من مالي، فقال التاجر: أني أخاف من الغربة لأنها بئست الكربة، قالت: لا بأس بالإغتراب الذي فيه الإكتساب ولا يذهب ولدنا ونطلبه فلا نراه ونفتضح بين الناس فقبل التاجر كلام زوجته وجهز متجراً للولد بتسعين ألف دينارٍ وأعطته أمه كيساً فيه أربعون فصاً من ثمين الجواهر أقل قيمة الواحد خمسمائة دينارٍ، وقالت: يا ولدي احتفظ بالجواهر فأنها تنفعك فأخذ قمر الزمان جميع ذلك وسافر إلى البصرة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والستين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان أخذ جميع ذلك وسافر إلى البصرة وكان قد وضع الجواهر في كمرٍ وشده على وسطه ولم يزل مسافراً حتى لم يبق بينه وبين البصرة إلا مرحلةً واحدةً فخرج عليه العرب وعروه وقتلوا رجاله وخدمه فرقد بين قتيلين ولطخ روحه بالدم فظن العرب أنه مقتول فتركوه ولم يتقرب منه أحدٌ، ثم أخذوا أمواله وراحوا فلما راح العرب إلى حال سبيلهم قام قمر الزمان من بين القتلى ومشى وهو لا يملك شيئاً غير الفصوص التي على حزامه ولم يزل سائراً حتى دخل البصرة فاتفق أن دخوله كان في يوم جمعةٍ وكانت المدينة خاليةً من الناس كما أخبر الدرويش فرأى الأسواق خاليةً والدكاكين مفتوحةً وهي ممتلئةً بالبضائع فأكل وشرب وصار يتفرج.
فبينما هو كذلك إذ سمع النوبة تدق فاختفى في دكانٍ إلى أن جاءت البنات فتفرج عليهن ولما رأى الصبية أخذه العشق والغرام وملكه الوجد والهيام حتى لا يستطيع القيام وبعد حصةٍ من الزمان ظهرت الناس وملأت الأسواق فذهب إلى السوق وتوجه إلى رجلٍ جوهري وأخرج له حجراً من الأربعين يساوي ألف دينارٍ فباعه له ورجع إلى محله، ثم باع أربعة فصوصٍ بأربعة ألاف دينارٍ وصار يتفرج في شوارع البصرة وهو لابسٌ أفخر الملابس حتى وصل إلى سوقٍ فرأى فيه رجلاً مزيناً فدخل عنده وحلق رأسه وعمل معه صاحبه ثم قال له: يا ولدي أنا غريب عن البلاد وبالأمس دخلت هذه المدينة فرأيتها خاليةً من السكان وما فيها أحدٌ من أنسٍ ولا جانٍ ثم أني رأيت بنات بينهن صبيةً راكبةً في موكبٍ وأخبره بما رآه فقال له: يا ولدي هل أخبرت غيري بهذا الخبر? قال: لا، فقال له: يا ولدي إياك أن تذكر هذا الكلام قدام أحد غيري فأن كل الناس لا يكتمون الكلام والأسرار وأنت ولدٌ صغيرٌ فأخاف عليك أن ينقل الكلام من ناسٍ إلى ناسٍ، حتى يصل إلى أصحابه فيقتلونك.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 936
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 937
وأعلم يا ولدي أن هذا الذي رأيته ما أحدٌ رآه ولا يعرفه في غير هذه المدينة وأما أهل البصرة فإنهم يموتون بهذه الحسرة وفي كل يوم جمعةٍ عند ضحوة النهار يحبسون الكلاب والقطط ويمنعونها عن المشي في صأأالأسواق وجميع أهل المدينة يدخلون الجوامع ويغلقون عليهم الأبواب ولا يقدر واحداً منهم أن يمر في السوق ولا أن يطل من طاقةٍ ولا يعرف أحدٌ ما سبب هذه البلية ولكن يا ولدي في هذه الليلة اسأل زوجتي عن سببها فأنها دايةٌ تدخل بيوت الأكابر وتعرف أخبار هذه المدينة فأن شاء الله تعالى تأتي عندي في الغد وأنا أخبرك بما تخبرني به فكبش كبشة وقال له: يا والدي خذ هذا الذهب وأعطه لزوجتك فأنها صارت أمي وكبش كبشةً ثانيةً وقال: خذ هذا لك، فقال المزين: يا ولدي اجلس مكانك حتى أروح إلى زوجتي واسألها وأجيء إليك بالخبر الصحيح، ثم تركه في الدكان وراح إلى زوجته وأخبرها بشأن الغلام وقال له: مرادي أن تخبريني بحقيقة أمر هذه المدينة حتى أخبر بها هذا الشاب التاجر فأنه متولعٌ بالإطلاع على حقيقة أمرها وامتناع الناس والحيوانات عن الأسواق في ضحوة يوم الجمعة وأظن أنه عاشقٌ وهو كريمٌ سخيٌ فإذا أخبرناه يحصل لنا منه خيرٌ كثيرٌ.
فقالت له: رح هاته وقل له: تعال كلم أمك زوجتي فأنها تقرئك السلام وتقول لك: إن الحاجة مقضيةٌ فذهب إلى الدكان فرأى قمر الزمان قاعدٌ النظرة فأخبره بالخبر وقال له: يا ولدي اذهب بنا إلى أمك زوجتي فأنها تقول لك: أن الحاجة مقتضيةٌ، ثم أخذه وسار به حتى دخل على زوجته فرحبت به وأجلسته ثم أنه أخرج مائة دينارٍ وأعطاها لها وقال لها: يا أمي أخبريني عن هذه الصبية من تكون? فقالت: يا ولدي أعلم أن سلطان البصرة قد جاءته الجوهرة من عند ملك الهند فأراد أن يثقبها فأحضر جميع الجواهرجية وقال لهم: أريد منكم أن تثقبوا لي هذه الجوهرة والذي يثقبها له علي تمنيةً فمهما تمناه أعطيته له وأن كسرها فأني أرمي رأسه فخافوا وقالوا: يا ملك الزمان أن الجواهر سريع العطب وقل أن يثقبه أحد ويسلم لأن الغالب عليه الكسر فلا تحملنا ما لا نطيق فنحن لا يخرج من أيدينا أن نثقب هذه الجوهرة وإنما شيخنا أخبر منا فقال للملك: ومن شيخكم? قالوا له: المعلم عبيد وهو أخبر منا بهذه الصناعة، وعنده أموالٌ كثيرةٌ وله معرفةٌ جيدةٌ، فأرسل إليه وأحضره بين يديك وأأمره أن يثقب لك هذه الجوهرة فأرسل إليه وأمره بثقبها وشرط عليه الشرط المذكور فأخذها وثقبها على مزاج الملك فقال: تمن علي يا معلم.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 937
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 938
فقال: يا ملك الزمان أمهلني إلى الغد والسبب في ذلك أنه أراد أن يشاور زوجته وكانت زوجته تلك الصبية التي رأيتها في الموكب وكان يحبها محبةً عظيمةً ومن عظم محبته لها أنه كان لا يفعل شيئاً إلا إذا شاورها فيه ولأجل ذلك أمهل التمنية حتى يشاورها فلما أتى إليها قال لها: أنا ثقبت للملك جوهرةً وأعطاني تمنيةً وقد أمهلته حتى أشاورك فأي شيءٍ تريدين حتى أتمنى? قالت: نحن عندنا أموالٌ لا تأكلها النيران ولكن أن كنت تحبني فتمنى على الملك أنه ينادي في شوارع البصرة فأن أهلها يدخلون الجوامع يوم الجمعة قبل الصلاة بساعتين ولا يبقى في البلد كبيرٌ ولا صغيرٌ إلا ويكون في المسجد أو في البيت وتقفل عليهم أبواب المساجد والبيوت ويتركون دكاكين البلد مفتوحةً وأركب بجواري وأشق في المدينة ولا ينظرني أحدٌ من طاقةٍ ولا من شباكٍ وكل من عثرت به قتلته. فراح إلى الملك وتمنى عليه هذه الأمنية فأعطاه ما تمناه ونادى بين أهل البصرة بما تمناه فقالوا: أننا نخاف على البضائع من القطط والكلاب فأمر الملك بحبسها في ذلك اليوم حتى تخرج الناس من صلاة الجمعة وصارت تلك الجارية تخرج في كل يوم جمعةٍ قبل الصلاة بساعتين وتركب بجواربها في شوارع البصرة ولا يقدر أحدٌ أن يمر في السوق ولا أن يطل من طاقةٍ ولا من شباكٍ فهذا هو السبب وقد عرفتك بالجارية ولكن يا ولدي هل مرادك معرفة خبرها أو مرادك الاجتماع بها? فقال: يا أمي مرادي الاجتماع بها، فقالت: أخبرني بما عندك من الذخائر الفاخرة فقال: يا أمي عندي من ثمين المعادن أربعة أصنافٍ صنف ثمن كل منه خمسمائة دينارٍ وصنف ثمن كل واحدٍ منه سبعمائة دينارٍ وصنف ثمن كل واحدٍ منه ثمانمائة دينارٍ وصنف كل واحدٍ منه ألف دينارٍ، قالت له: تسمح نفسك بأربعة منهم? قال: نفسي تسمح بالجميع فقالت: قم يا ولدي من غير مطرود وأخرج فصاً منها يكون ثمنه خمسمائة دينارٍ واسأل عن دكان المعلم عبيد شيخ الجواهرجية واذهب إليه تراه جالساً في دكانه وعليه ثيابٌ فاخرةٌ وتحت يده الصناع فسلم عليه وأجلس في الدكان وأخرج الفص وقل له: يا معلم خذ هذا الحجر واصنع لي خاتماً بالذهب ولا تجعله كبيراً بل أجعله على قدر مثقالٍ من غير زيادةٍ وأصنعه صنعاً جيداً ثم أعطه عشرين ديناراً وأعط الصناع كل واحدٍ ديناراً وأقعد عنده حصةً وتحدث معه وإذا أتاك سائلٌ فأعطه ديناراً وأظهر الكرم حتى يتولع بمحبتك ثم قم من عنده ورح إلى منزلك وبت هناك فإذا أصبحت فهات معك مائة دينارٍ وأعطها لأبيك فأنه فقير الحال قال: وهو كذلك، ثم خرج من عنده وذهب إلى الوكالة وأخذ فصاً ثمنه خمسمائة دينار وعمد به إلى سوق الجواهر وسأل عن دكان المعلم عبيد شيخ الجوهرية فدلوه على دكانه فلما وصل إلى الدكان رأى شيخ الجوهرية رجلاً مهاباً وعليه ثيابٌ فاخرةٌ وتحت يده أربعة صناعٍ فقال لهم: السلام عليكم فرد عليه السلام ورحب به وأجلسه فلما جلس أخرج له الفص وقال له: يا معلم أريد منك أن تصوغ لي هذا الحجر خاتماً بالذهب ولكن اجعله على قدر مثقالٍ من غير زيادةٍ وصغه صياغةً طيبةً ثم أخرج له عشرين ديناراً وقال له: خذ هذه في نظير نقشه الأجرة باقيةٌ ثم أعطى كل صانع ديناراً فأحبه الصناع وأحبه المعلم عبيد وقعد يتحدث معه وصار كل من أتاه من السائلين يعطيه ديناراً فتعجبوا من كرمه ثم أن المعلم عبيد كان عنده عدةً في بيته مثل العدة التي في الدكان وكان من عادته أنه إذا أراد أن يصنع شيئاً غريباً يشتغله في بيته حتى أن الصناع لا يتعلمون منه الصنعة الغريبة وكانت الصبية زوجته تجلس قدامه فإذا كانت قدامه ونظر إليها يصنع لك شيءٌ غريبٌ صناعته بحيث لا يليق إلا بالملوك فقعد يصنع هذا الخاتم صنعةً عجيبةً في البيت فلما رأته زوجته قالت: ما مرادك أن تصنع بهذا الفص? قال: أريد أن أصوغه خاتماً بالذهب فأن ثمنه خمسمائة دينارٍ فقالت له: لمن? قال: لغلامٍ تاجرٍ جميل الصورة له عيونٌ تجرح وخدودٌ تقدح وله فمٌ كخاتم سيدنا سليمان ووجنتان كشقائق النعمان وشفائف حمرٍ كالمرجان وله عنقٌ مثل أعناق الغزلان وهو أبيضٌ مشربٌ بحمرة ظريفٍ، لطيفٍ، كريمٍ فعل كذا وكذا وصار تارةً يصف لها حسنه وجماله وتارةً يصف لها كرمه وكماله وما زال يذكر لها محاسنه وكرم أخلاقه حتى عشقها فيه ولم يكن أحدٌ أعرض من الذي يصف لزوجته إنساناً بالحسن
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 938
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 939
والجمال وفرط سخائه بالمال.جمال وفرط سخائه بالمال.
فلما أفاض منها الغرام قالت له: هل يوجد فيه شيء من محاسني? فقال لها: جميع محاسنك كلها فيه وهو شبيهك في الصفة وربما كان عمره قدر عمرك ولولا أني أخاف على خاطرك لقلت: أنه أحسن منك ألف مرةٍ فسكتت ولكن التهبت نار محبته في قلبها ثم أن الصائغ لم يزل يتحدث معها في تعداد محاسنه حتى فرغ من صياغة هذا الخاتم وناوله لها فلبسته فجاء على قدر إصبعها فقالت له: يا سيدي أن قلبي حب هذا الخاتم وأشتهي أن يكون لي ولا أنزعه من إصبعي، فقال لها: اصبري فأن صاحبه كريمٌ وأنا أطلب أن أشتريه منه فأن باعني إياه جئت به إليك وأن كان عنده حجرا آخر اشتريه لك وأصوغه مثله.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والستين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجوهري قال لزوجته: اصبري فأن صاحبه كريمٌ وأنا أطلب أن اشتريه منه فأن باعني إياه جئت به إليك وأن كان عنده حجرٌ آخر اشتريه وأصوغه لك مثله، هذا ما كان من أمر الجوهري وزوجته.
وأما ما كان من أمر قمر الزمان فأنه بات في منزله فلما أصبح أخذ مائة دينارٍ وأتى إلى العجوز زوجة المزين وقال لها: خذي هذه المائة دينارٍ فقالت له: أعطيها لأبيك فأعطاها له ثم أنها قالت له: هل فعلت كما قلت? قال: نعم قالت له: قم وتوجه الآن إلى شيخ الجوهرية فإذا أعطاك الخاتم فضعه في رأس إصبعك وانزعه بسرعةٍ وقل له: يا معلم أخطأت أن الخاتم جاء ضيقاً فيقول لك: يا تاجر هل أكسره وأصوغه واسعاً? فقل له: ما أحتاج إلى كسره وصياغته ثانياً ولكن خذه وأعطه لجارية من جواريك وأخرج له حجراً آخر يكون ثمنه سبعمائة دينارٍ وقل له: خذ هذا الحجر صنعه لي فأنه أحسن من ذلك وأعطه ثلاثين ديناراً وأعط لكل صانعٍ دينارين وقل له: هذه الدنانير في نظير نقشه والأجرة باقيةٌ ثم أرجع إلى منزلك وبت هناك وتعالى في الصباح ومعك مائتا دينارٍ وأنا أكمل لك بقية الحيلة.
ثم أنه ذهب إلى الجوهري فرحب به وأجلسه على الدكان فلما جلس قال له: هل قضيت الحاجة? قال: نعم وأخرج له الخاتم فأخذه وحطه في رأس إصبعه ثم نزعه سريعاً وقال له: أخطأت يا معلم ورماه له وقال له: أنه ضيق على إصبعي فقال له الجوهري: يا تاجر هل أوسعه لك? قال: لا، ولكن خذه إحسانا وألبسه لبعض جواريك فأن ثمنه تافهٌ لأنه خمسمائة دينارٍ فلا يحتاج إلى صياغته ثانياً ثم أخرج له فصاً آخر ثمنه سبعمائة دينارٍ وقال له: اصنع هذا الخاتم ثم أعطاه ثلاثين ديناراً وأعطى كل صانعٍ دينارين فقال له: يا سيدي لما تصوغ الخاتم تأخذ أجرته قال: هذه في نظير نقشه والأجرة باقية ثم تركه ومضى فاندهش الجوهري من شدة كرم قمر الزمان وكذلك الصناع ثم أن الجوهري ذهب إلى زوجته وقال لها: يا فلانة ما رأت عيني أكرم من هذا الشاب وأنت بختك طيبٌ لأنه أعطاني الخاتم بلا ثمنٍ وقال لي: أعطه لبعض جواريك وحكى لها القصة.
ثم قال لها: أظن أن هذا الولد ما هو من أولاد التجار وإنما هو من أولاد الملوك والسلاطين وصار كلما مدحه تزداد فيه غراماً ووجداً وهياماً ثم لبست الخاتم والجوهري صاغ له الثاني أوسع من الأول بقليل فلما فرغ من صناعته لبسته في إصبعها من داخل الخاتم الأول ثم قالت: يا سيدي انظر ما أحسن الخاتمين في إصبعي فأشتهي أن يكون الخاتمان لي فقال لها: اصبري لعلي اشتري الثاني لك ثم بات فلما أصبح أخذ الخاتم وتوجه إلى الدكان. هذا ما كان من أمره.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 939
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 940
وأما ما كان من أمر قمر الزمان فأنه أصبح متوجهاً إلى العجوز زوجة المزين وأعطاها مائتي دينار فقالت له: توجه إلى الجوهري فإذا أعطاك الخاتم فضعه في إصبعك وانزعه سريعاً وقل أخطأت يا معلم أن الخاتم جاء واسعاً والمعلم الذي يكون مثلك إذا أتاه مثلي بشغلٍ ينبغي له أن يأخذ القياس فلو كنت أخذت قياس إصبعي ما أخطأت وأخرج له حجراً آخر يكون ثمنه ثمانمائة دينارٍ وقل له: خذ هذا اصنعه وأعط هذا الخاتم إلى جاريةٍ من جواريك ثم أعطه أربعين ديناراً وأعط كل صانع ثلاثة دنانيرٍ وقل له: هذا في نظير نقشه وأما الأجرة فأنها باقيةٌ وانظر ماذا يقول لك ثم تعال ومعك ثلثمائة دينارٍ وأعطها لأبيك يستعين بها على وقته فأنه رجلٌ فقير الحال، فقال سمعاً وطاعةً ثم أنه توجه إلى الجوهري فرحب به وأجلسه ثم أعطاه الخاتم فوضعه في إصبعه ونزل به بسرعةٍ وقال له: ينبغي للمعلم الذي مثلك إذا أتاه مثلي بشغلٍ أن يأخذ قياسه فلو كنت أخذت قياس إصبعي ما أخطأت ولكن خذه وأعطه لبعض جواريك ثم أخرج له حجراً ثمنه ثمانمائة دينارٍ وقال له: خذ هذا وأصنعه لي خاتماً على قدر إصبعي.
فقال: صدقت والحق معك فأخذ القياس وأخرج له أربعين ديناراً وقال له: خذ هذه في نظير نقشه والأجرة باقيةٌ فقال له: يا سيدي كم أجرة هذا أخذناها منك فإحسانك علينا كثيرٌ فقال له: لا بأس ثم أنه تحدث معه حصة وصار كلما يمر به سائل يعطيه ديناراً وبعد ذلك تركه وانصرف. هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر الجوهري فأنه توجه إلى بيته وقال لزوجته: ما أكرم هذا الشاب التاجر فما رأيت أكرم منه وأجمل منه ولا أحلى من لسانه وصار يذكر لها محاسنه وكرمه ويبالغ في مدحه.
فقالت له: يا عديم الذوق حيث كنت تعرف فيه هذه الصفات وقد أعطاك خاتمين مثمنين ينبغي لك أن تعزمه وتعمل له ضيافةً وتتودد إليه فإذا رأى منك المودة وجاء منزلنا ربما تنال منه خيراً كثيراً وأن كنت لا تسمح له بضيافة فأعزمه وأنا أعمل له الضيافة من عندي، فقال لها هل أنت تعرفين أنني بخيلٌ حتى تقولي هذا الكلام? قالت له: ما أنت بخيلٌ ولكنك عديم الذوق فأعزمه في هذه الليلة ولا تجيء بدونه وأن أمتنع فأحلف بالطلاق وأكد عليه، فقال لها: على الرأس والعين? ثم أنه صاغ الخاتم ونام وأصبح في ثاني يوم متوجهاً إلى الدكان وجلس فيها. هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر قمر الزمان فأنه أخذ ثلثمائة دينارٍ وتوجه إلى العجوز وأعطاها لزوجها فقالت له: ربما يعزم عليك في هذا اليوم فإذا عزم عليك وبت عنده فمهما جرى لك فأخبرني به في الصباح وهات معك أربعمائة دينارٍ وأعطها لأبيك فقال سمعاً وطاعةً، وصار كلما فرغت منه الدراهم يبيع من الأحجار، ثم أنه توجه إلى الجوهري فقام له وأخذه بالأحضان وسلم عليه وعقد معه صحبةً، ثم أنه أخرج الخاتم فرآه على قدر إصبعه فقال له: بارك الله فيك يا سيد المعلمين أن الصياغة موافقةٌ، ولكن الفص ليس على مرادي، لأن عندي أحسن منه فخذه وأعطه لبعض جواريك وأخرج لي غيره، وأخرج له مائة دينارٍ وقال له: خذ أجرتك ولا تؤاخذنا فأننا تعبناك، فقال له: أن الذي تعبنا فيه قد أعطيتنا إياه وتفضلت علينا بشيءٍ كثيرٍ وأنا قلبي تعلق بحبك ولا أقدر على فراقك، فبالله عليك أن تكون ضيفي في هذه الليلة وتجبر خاطري.
164
فلما سمع الغلام كلامه قام إليه وعانقه وقبل رأسه ويديه وقال له: بالله عليك أن تخبرني صورة من هي، فقال سمعاً وطاعةً، ثم قام وفتح خزانةً وأخرج منها عدة كتبٍ كان صور فيها هذه الصورة وقال له: اعلم يا ولدي أن صاحبة هذه الصورة ابنة عمي وهي في البصرة وأبوها حاكم البصرة يقال له: أبو الليث وهي يقال لها جميلة وما على وجه الأرض أجمل منها ولكنها زاهدةٌ في الرجال ولا تقدر أن تسمع ذكر رجلٍ في مجلسها وقد ذهبت إلى عمي بقصد أنه يزوجني بها وبذلت له الأموال فلم يجيبني إلى ذلك فلما علمت ابنته بذلك اغتاظت وأرسلت إلي كلاماً من جملته أنها قالت: إن كان لك عقلٌ فلا تقم بهذه البلدة وإلا تهلك ويكون ذنبك في عنقك وهي جبارةٌ من الجبابرة فخرجت من البصرة وأنا منكسر الخاطر وعملت هذه الصورة في الكتب وفرقتها في البلاد لعلها تقع في يد غلامٍ حسن الصورة مثلك فيتحيل في الوصول إليها لعلها تعشقه وأكون قد أخذت عليه العهد أنه إذا تمكن منها يريني إياها ولو نظرةً من بعيد، فلما سمع إبراهيم ابن الخصيب كلامه أطرق برأسه ساعةً وهو يتفكر فقال له الصندلاني: يا ولدي إني ما رأيت ببغداد أحسن منك وأظن أنها إذا نظرتك تحبك فهل يمكنك إذا اجتمعت بها أن تريني إياها ولو نظرةً من بعيد? فقال: نعم فقال: إذا كان الأمر كذلك فأقم عندي إلى أن تسافر فقال: لا أقدر على المقام فإن في قلبي من عشقها ناراً زائدةً، فقال له: اصبر حتى أجهز لك مركبا في ثلاثة أيام لنذهب فيها إلى البصرة فصبر حتى جهز له مركباً ووضع فيها كل ما يحتاج إليه من المأكولٍ ومشروبٍ وغير ذلك وبعد ثلاثة أيامٍ قال للغلام تجهز للسفر فقد جهزت لك مركباً فيها سائر ما تحتاج إليه والمركب ملكي والملاحون من أتباعي وفي المركب ما يكفيك إلى أن تعود وقد أوصيت الملاحين أن يخدموك إلى أن ترجع بالسلامة.
فنهض الغلام ونزل في المركب وودعه وسار حتى وصل إلى البصرة فأخرج الغلام مائة دينارٍ للملاحين فقالوا له: نحن أخذنا الأجرة من سيدنا، فقال لهم: خذوها إنعاماً وأنا لا أخبره بذلك فأخذوها منه ودعوا له، ثم دخل الغلام البصرة وسأل: أين مسكن التجار? فقالوا له: في خان يسمى خان حمدان فمشى حتى وصل إلى السوق الذي فيه الخان فامتدت إليه الأعين بالنظر من فرط حسنه وجماله ثم دخل الخان مع رجلٌ ملاحٍ وسأل عن البواب فدلوه عليه فرآه شيخاً كبيراً مهاباً فسلم عليه فرد عليه السلام فقال: يا عم هل عندك حجرةً ظريفةً? قال: نعم.
ثم أخذه هو والملاح وفتح لهما حجرةً ظريفةً مزركشةً بالذهب، وقال يا غلامٍ أن هذه الحجرة تصلح لك فأخرج الغلام دينارين وقال له: خذ هذين حلوان المفتاح فأخذهما ودعا له وأمر الغلام الملاح بالذهاب إلى المركب ثم دخل الحجرة فاستمر عند بواب الخان وخدمه وقال له: يا سيدي حصل لنا بك السر فأعطاه الغلام ديناراً وقال له: هات لنا به خبزاً ولحماً وحلوى وشراباً فأخذه وذهب به إلى السوق ورجع إليه وقد اشترى ذلك بعشرة دراهم وأعطاه الباقي فقال الغلام: اصرفه على نفسك ففرح البواب بذلك فرحاً عظيماً ثم أن الغلام أكل مما طلبه قرصاً واحداً بقليل من الآدم وقال لبواب الخان: خذ هذا إلى أهل منزلك فأخذه وذهب به إلى أهل منزله وقال لهم: ما أظن أن أحداً على وجه الأرض أكرم من الغلام الذي سكن عندنا في هذا اليوم ولا أحلى منه فإن دام عندنا حصل لنا الغنى.
ثم أن بواب الخان دخل على إبراهيم فرآه يبكي فقعد وصار يكبس رجليه ثم قبلهما وقال: يا سيدي لأي شيءٍ تبكي لا أبكاك الله? فقال: يا عم أريد أن أشرب أنا وأنت في هذه الليلة فقال سمعاً وطاعةً فأخرج له خمسة دنانيرٍ وقال له: اشتر لنا بها فاكهةً وشراباً ثم دفع له خمسة دنانيرٍ أخرى وقال له: اشتر لنا بهذه نقلاً ومشموماً وخمس فراخٍ سمان وأحضر لي عوداً فخرج واشترى له ما أمره به وقال لزوجته: ضعي هذا الطعام وصفي لنا هذا الشراب وليكن ما تصنعينه جيداً فإن هذا الغلام قد عمنا بإحسانه فصنعت زوجته ما أمرها به على غاية المراد. ثم أخذه ودخل على إبراهيم ابن السلطان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والخمسين بعد التسعمائة
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 918
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 919
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بواب الخان لما صنعت زوجته الطعام والشراب أخذه ودخل به على ابن السلطان فأكلا وشربا وطربا فبكى الغلام وأنشد هذين البيتين: يا صاحبي لو بذلت الروح مجتهداً وجملة المال والدنيا وما فـيهـا
وجنة الخلد والفردوس أجمعهـا بساعة الوصل كان القلب شاريها
ثم شهق شهقةً عظيمةً وخر مغشياً عليه فتنهد بواب الخان فلما رآه أفاق قال له بواب الخان: يا سيدي ما يبكيك ومن هي التي تريدها بهذا الشعر فإنها لا تكون إلا تراباً لأقدامك? فقام الغلام وأخرج بقجةً من أحسن ملابس النساء وقال له: خذ هذه إلى حريمك فأخذها منه ودفعها إلى زوجته فأتت معه ودخلت على الغلام فإذا هو يبكي، فقالت له: فتت أكبادنا فعرفنا بأي مليحةٍ تريدها وهي لا تكون إلا جاريةً عندك. فقال: يا عم اعلم أني أنا ابن الخصيب صاحب مصر وإني متعلق بجميلة بنت أبي الليث العميد فقالت زوجة بواب الخان: الله الله يا أخي اترك هذا الكلام لئلا يسمع بنا أحد فنهلك فإنه ما على وجه الأرض أجبر منها ولا يقدر أحدٌ أن يذكر لها اسم رجلٍ لأنها زاهدةٌ في الرجال يا ولدي اعدل عنها لغيرها، فلما سمع كلامها بكى بكاءً شديداً فقال له بواب الخان: ما لي سوى روحي فأنا أخاطر بها في هواك وأدبر لك أمراً فيه بلوغ مرادك.
ثم خرجا من عنده فلما أصبح الصباح دخل الحمام ولبس حلةً من ملبوس الملوك وإذا ببواب الخان هو وزوجته قدما عليه وقالا له: يا سيدي اعلم أن هنا رجلاً خياطاً أحدب وهو خياط السيدة جميلة فاذهب إليه وأخبره بحالك فعساه بذلك على ما فيه وصولك إلى أغراضك فقام الغلام وقصد دكان الخياط الأحدب فدخل عليه فوجد عنده عشرة مماليكٍ، كأنهم الأقمار فسلم عليهم فردوا عليه السلام وفرحوا به وأجلسوه وتحيروا في محاسنه وجماله فلما رآه الأحدب اندهش عقله من حسن صورته فقال له الغلام: أريد أن تخبط لي جيبي فتقدم الخياط وأخذ فتلة من الحرير وخاطه وكان الغلام قد فتقه عمداً فلما خاطه أخرج له خمسة دنانيرٍ أعطاها له وانصرف إلى حجرته فقال الخياط: أي شيءٍ عملته لهذا الغلام حتى أعطاني الخمسة دنانير? ثم بات ليلته يفكر في حسنه وكرمه فلما أصبح الصباح ذهب إلى دكان الخياط الأحدب ثم دخل وسلم عليه فرد عليه السلام وأكرمه ورحب به فلما جلس قال للأحدب: يا عم خيط لي جيبي فإنه فتق ثانياً فقال له: يا ولدي على الرأس والعين ثم تقدم وخاطه فدفع له عشرة دنانير فأخذها وصار مبهوتاً من حسنه وكرمه، ثم قال له: والله يا غلام إن فعلك لا بد له من سببٍ وما هذا خبر خياطة جيب ولكن أخبرني عن حقيقة أمرك فإن كنت عشقت واحداً من هؤلاء الأولاد فو الله ما فيهم أحسن منك وكلهم تراب أقدامك وها هم عبيدك وبين يديك وإن كان غير هذا فأخبرني? فقال: يا عم ما هذا محل الكلام، فإن حديثي عجيبٌ وأمري غريبٌ قال: فإذا كان الأمر كذلك فقم بنا في خلودٍ، ثم نهض الخياط وأخذه بيده ودخل معه حجرةً في داخل الدكان وقال له: يا غلام حدثني ماذا تريد، فحدثه بأمره من أوله إلى آخره فبهت من كلامه وقال: يا غلام اتق الله في نفسك فإن التي ذكرتها جبارةٌ زاهدةٌ في الرجال فاحفظ يا أخي لسانك وإلا فأنك تهلك نفسك.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 919
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 920
فلما سمع الغلام كلامه بكى بكاءً شديداً ولزم ذيل الخياط وقال: أجرني يا عم فإني هالكٌ وقد تركت ملكي وملك أبي وجدي وصرت في البلاد غريباً وحيداً ولا صبر لي عنها، فلما رأى الخياط ما حل به رحمه وقال: يا ولدي ما عندي إلا نفسي فأنا أخاطر بها في هواك فإنك قد جرجرت قلبي ولكن في الغد أدبر لك أمراً ليطيب به قلبك فدعا له وانصرف إلى الخان فحدث بواب الخان بما قاله الأحدب فقال له: قد فعل معك جميلاً، فلما أصبح الصباح لبس الغلام أفخر ثيابه وأخذ كيساً فيه دنانير وأتى إلى الأحدب فسلم وجلس ثم قال له: يا عم انجز وعدي فقال له: قم في هذه الساعة وخذ ثلاث فراخٍ سمان وثلاث أوراقٍ من السكر النبات وكوزين لطيفين واملأهما شرابا وخذ قدحاً وضع ذلك في كارةٍ وأنزل بعد صلاة الصبح في زورقٍ مع ملاح وقل له: أريد أن تذهب بي تحت البصرة فإن قال لك: ما أقدر أن أعدي أكثر من فرسخ فقل له: الرأي لك فإذا عدى فرغبه بالمال حتى يوصلك فإذا وصلت فأول بستانٍ تراه فأنه بستان السيدة جميلة فإذا رأيته فاذهب إلى بابه ترى درجتين عاليتين عليهما فرش من الديباج وجالس عليهما رجل أحدب مثلي فاشك إليه حالك وتوسل به فعساه أن يرثي لحالك ويوصلك إلى أن تنظرها ولو نظرةً من بعيدٍ وما بيدي حيلةٌ غير هذا، وأما إذا لم يرث لحالك فقد هلكت أنا وأنت وهذا ما عندي من الرأي والأمر إلى الله تعالى فقال الغلام: استعنت بالله تعالى ما شاء الله كان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قام من عند الخياط الأحدب وذهب إلى حجرته وأخذ ما أمره به في كارةٍ لطيفةٍ ثم أنه لما أصبح جاء إلى شاطئ الدجلة وإذا هو برجلٍ ملاحٍ نائم فأيقظه وأعطاه عشرة دنانيرٍ وقال له: عدني إلى تحت البصرة فقال له: يا سيدي بشرطٍ أني لا أعدي أكثر من فرسخ وإن تجاوزته شبراً هلكت أنا وأنت فقال له: الرأي لك فأخذه وانحدر به فلما قرب من البستان قال: يا ولدي من هنا ما أقدر أن أعدي فإن تعديت هذا الحد هلكت أنا وأنت فأخرج له عشرة دنانير وقال: خذ هذه نفقة لتستعين بها على حالك فاستحى منه وقال: سلمت أمري لله تعالى.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والخمسين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام لما أعطى للملاح العشرة دنانير الأخرى أخذها وقال: سلمت أمري لله تعالى وانحدر به فلما وصلا إلى البستان نهض الغلام من فرحته ووثب من الزورق وثبة مقدار رمية رمحٍ ورمى نفسه فرجع الملاح هارباً، ثم تقدم الغلام فرأى جميع ما وصفه له الخياط الأحدب من البستان ورأى بابه مفتوحاً وفي الدهليز سريرٌ من العاج جالس عليه رجلٌ أحدب لطيف المنظر عليه ثيابٌ مذهبةٌ وفي يده دبوسٌ من فضةٍ مطليٌ بالذهب فنهض الغلام مسرعاً وانكب على يده وقبلها فقال له: من أنت ومن أين أتيت ومن أوصلك إلى هنا يا ولدي? وكان ذلك الرجل لما رأى إبراهيم بن الخصيب انبهر من جماله فقال له إبراهيم: يا عم أنا صبيٌ جاهلٌ غريبٌ.
ثم بكى فرق له وأصعده على السرير ومسح له دموعه وقال: لا بأس عليك أن كنت مديوناً قضى الله دينك وأن كنت خائفاً آمن الله خوفك، فقال: يا عم لا بي خوفٌ ولا علي دينٌ ومعي مالٌ جزيلٌ بحمد الله وعونه فقال له: يا ولدي ما حاجتك حتى خاطرت بنفسك وجمالك إلى محلٍ فيه الهلاك? فحكى له حكايته وشرح له أمره فلما سمع كلامه أطرق برأسه ساعةً إلى الأرض وقال: هل الذي دلك علي الخياط الأحدب? قال: نعم، قال: هذا أخي وهو رجلٌ مباركٌ.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 920
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 921
ثم قال: يا ولدي لولا أن محبتك نزلت في قلبي ورحمتك لهلكت أنت وأخي وبواب الخان وزوجته ثم قال: أعلم أن هذا البستان ما على وجه الأرض مثله والله يقال له بستان اللؤلؤة وما دخله أحدٌ مدة عمري إلا السلطان وأنا وصاحبته جميلة وأقمت فيه عشرين سنةً فما رأيت أحدٌ جاء إلى هذا المكان وكل أربعين يوماً تأتي في المركب إلى هنا وتصعد بين جواريها في حلة أطلسٍ تحمل أطرافها عشر جوارٍ بكلاليبٍ من الذهب إلى أن تدخل فلم أر منها شيئاً ولكن أنا ما لي إلا نفسي فأخاطر بها من أجلك فعند ذلك قبل الغلام يده وقال له: اجلس عندي حتى أدبر لك أمراً ثم أخذ بيد الغلام وأدخله البستان فلما دخل إبراهيم ذلك البستان ظن أنه الجنة ورأى الأشجار ملتفةً والنخيل باسقةً والمياه متدفقةً والأطيار تناغي بأصواتٍ مختلفة ثم ذهب به إلى قبةٍ وقال له: هذه التي تقعد فيها السيدة جميلة فتأمل تلك القبة فوجدها من أعجب المنتزهات وفيها سائر التصاوير بالذهب واللازورد وفيها أربعة أبواب يصعد إليها بخمس درج وفي وسطها بركةٌ ينزلها إليها بدرج من الذهب وتلك الدرج مرصعة بالمعادن وفي وسط البركة سلسبيل من الذهب فيه صور كبار وصغار والماء يخرج من أفواهها فإذا صفت الصور عند خروج الماء بأصواتٍ مختلفةٍ تخيل لسامعها أنه في الجنة وحول القبة ساقية قواديسها من الفضة وهي مكسوةٌ بالديباج وعلى يسار الساقية شباك من الفضة مطلٍ على برجٍ أخضرٍ فيه من سائر الطيور والوحوش والغزلان والأرانب وعلى يمينها شباكٌ مطلٌ على ميدانٍ فيه من سائر الطيور وكلها تغرد بأصوات مختلفة تدهش السامع، فلما رأى الغلام ذلك أخذه الطرب وقعد في باب البستان، وقعد البستاني بجانبه فقال له: كيف ترى بستاني? فقال له الغلام: هو جنة الدنيا، فضحك البستاني ثم قام وغاب عنه ساعةً وعاد ومعه طبقٌ فيه دجاجٌ وسمانٌ ومأكولٌ مليحٌ وحلوى من السكر فوضعه بين يدي الغلام وقال له: كل حتى تشبع قال إبراهيم: فأكلت حتى اكتفيت.
فلما رآني أكلت فرح وقال: هكذا شأن الملوك أولاد الملوك ثم قال: يا إبراهيم أي شيء معك في هذه الكارة فحللتها بين يديه فقال: أحملها معك فأنها تنفعك إذا حضرت السيدة جميلة فأنها إذا جاءت لا أقدر أن أدخل لك بما تأكله ثم قام وأخذ بيدي وأتى بي إلى مكان قبال قبة جميلة فعمل عريشة بين الأشجار وقال له: أصعد هنا فإذا جاءت فأنك تنظرها وهي لا تنظرك وهذا أكثر ما عندي من الحيلة وعلى الله الاعتماد فإذا غنت فاشرب على غنائها فإذا ذهبت فارجع من حيث جئت أن شاء الله مع السلامة. فشكره الغلام وأراد أن يقبل يده فمنعه ثم أن الغلام وضع الكارة في العريشة التي عملها له ثم قال له البستاني: يا إبراهيم تفرج في البستان وكل من أثماره فأن ميعاد حضور صاحبتك في الغد فصار إبراهيم يتنزه في البستان ويأكل من أثماره وبات ليلته عنده فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح صلى إبراهيم الصبح وإذا بالبستاني جاء وهو مصفر اللون وقال له: يا ولدي قم واصعد إلى العريشة فإن جواري السيدة جميلة قد أتين ليفرشن المكان وهي تأتي بعدهن.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والخمسين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخولي لما دخل على إبراهيم بن الخصيب في البستان قال له: قم يا ولدي اصعد على العريشة فأن الجواري قد أتين ليفرشن المكان وهي تأتي بعدهن واحذر من أن تبصق أو تمخط أو تعطس فنهلك أنا وأنت فقام الغلام وصعد إلى العريشة وذهب الخولي وهو يقول: رزقك الله السلامة يا ولدي فبينما الغلام قاعدٌ وإذا بخمس جوار أقبلن لم ير مثلهن أحد فدخلن القبة وقلعن ثيابهن وغسلن القبة ورششنها بماء الورد، وأطلقن العود والعنبر وفرشن الديباج وأقبل بعدهن خمسون جارية ومعهن آلات الطرب وجميلة بينهن من داخل خيمة حمراء من الديباج والجواري رافعات أذيال الخيمة بكلاليب من الذهب حتى دخلت القبة فلم ير منها ولا أثوابها شيئاً فقال في نفسه: والله أنه ضاع جميع تعبي ولكن لا بد من أن أصبر حتى أنظر كيف يكون الأمر.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 921
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 922
فقدمت الجواري الأكل والشرب، ثم أكلن وشربن وغسلن أيديهن، ونصبن لها كرسياً فجلست عليه ثم ضربن بآلات الملاهي جميعهن وغنين بأصوات مطربة لا مثيل لها ثم خرجت عجوز قهرمانة فصفقت ورقصت فجذبها الجواري وإذا بالستر رفع وخرجت جميلة وهي تضحك فرآها إبراهيم وعليها الحلي والحلل وعلى رأسها تاجٌ مرصعٌ باللؤلؤ فقامت الجواري وقبلن الأرض بين يديها وهي تضحك.
قال إبراهيم بن الخصيب: فلما رأيتها غبت عن وجودي واندهش عقلي وتحير فكري بما بها من جمالٍ لم يكن على وجه الأرض مثله ووقعت مغشياً علي ثم أفقت باكي العينين وأنشدت هذين البيتين: أراك فلا أرد الطرف كيلا يكون حجاب رؤيتك الجفون
ولو أني نظرت بكل لحـظٍ لما استوفت محاسنك العيون
فقالت العجوز للجواري: ليقمن منكن عشر يرقصن ويغنين فلما رآهن إبراهيم قال في نفسه: اشتهي أن ترقص السيدة جميلة فلما انتهى رقص العشر جواري فأقبلن حولها وقلن: يا سيدتنا نشتهي أن ترقصي في هذا المجلس ليتم سرورنا بذلك لأننا ما رأينا أطيب من هذا اليوم فقال إبراهيم بن الخصيب في نفسه: لا شك أن أبواب السماء قد فتحت واستجاب الله دعائي، ثم قبل الجواري أقدامها وقلن لها: والله ما رأينا صدرك مشروحاً مثل هذا اليوم فما زلن يرغبنها حتى قلعت أثوابها وصارت بقميص من نسيج الذهب مطرزاً بأنواع الجواهر وأبرزت نهوداً كأنهن الرمان وأسفرت عن وجه كالبدر ليلة تمامه فرأى إبراهيم من الحركات ما لم ير في عمره مثله وأتت في رقصها بأسلوبٍ غريبٍ وابتداعٍ عجيبٍ، حتى أنست رقص الحبيب في الكؤوس، وذكرت ميل العمائم عن الرؤوس وهي كما قال فيها الشاعر: كما اشتهت خلقت حتى إذا اعتدلت في قالب الحسن لا طول ولا قصر
كأنها خـلـت مـن مـاء لـؤلـؤٍ في كل جاريةٍ من حسنها قـمـر
وكما قال الآخر: وراقص مثل غصن البان قامته تكاد تذهب روحي من تنقلـه
لا يستقر له في رقصته قـدم كلفا نار قلبي تحت أرجـلـه
قال إبراهيم: فبينما أنظر إليها إذ لاحت منها التفاتة إلي فرأتني فلما نظرتني تغير وجهها فقالت لجواريها: غنوا أنتم حتى أجيء إليكن ثم عمدت إلى سكين قدر نصف ذراع وأخذتها وأتت نحوي ثم قالت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فلما قربت مني غبت عن الوجود فلما رأتني ووقع وجهها في وجهي وقعت السكين من يدها وقالت: سبحان مقلب القلوب ثم قالت لي: يا غلام طب نفساً وقر عيناً ولك الأمان مما تخاف? فصرت أبكي وهي تمسح دموعي بيدها وقالت: يا غلام أخبرني من أنت وما جاء بك إلى هذا المكان? فقلبت الأرض بين يديها ولزمت ذيلها فقالت: لا بأس عليك فو الله ما ملأت عيني من ذكر غيرك فقل من أنت? قال: إبراهيم: فحدثتها بحديثي من أوله إلى أخره فتعجبت من ذلك وقالت لي: يا سيدي أناشدك هل أنت إبراهيم بن الخصيب? قلت: نعم فانكبت علي وقالت: يا سيدي أنت الذي زهدتني في الرجال لأنني لما سمعت أنه وجد في مصر صبي لم يكن على وجه الأرض أجمل منه واسمه إبراهيم بن الخصيب هويتك بالوصف وتعلق قلبي بحبك لما بلغني عنك من الجمال الباهر وصرت فيك كما قال الشاعر: أذني لقد سبقت في عشقه بصري والأذن تعشق قبل العين أحيانـاً
فالحمد لله الذي أراني وجهك والله لو كان أحد غيرك لكنت صلبت البستاني وبواب الخان والخياط ومن يلوذ بهم ثم قالت لي: كيف احتال على شيءٍ تأكله من غير إطلاع الجواري? فقلت له: معي ما نأكل وما نشرب ثم حللت الكارة بين يديها فأخذت دجاجة وصارت تلقمني وألقمها فلما رأيت ذلك منها توهمت أنه منا. ثم قدمت الشراب فشربنا كل ذلك وهي عندي والجواري يغنين وما زلنا كذلك من الصبح إلى الظهر ثم قامت وقالت قم الآن هيء لك مركباً وانتظرني في المحل الفلاني حتى أجيء إليك فما بقي لي صبرٌ على فراقك فقلت: يا سيدتي أن معي مركباً وهي ملكي والملاحون في إجارتي وهم في انتظاري فقالت: هذا هو المراد ثم مضت إلى الجواري.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والخمسين بعد التسعمائة
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 922
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 923
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة جميلة لما مضت إلى الجواري قالت لهن: قمن بنا لنروح إلى قصرنا فقلن لها: كيف نقوم في هذه الساعة وعادتنا أننا نقعد ثلاثة أيامٍ? فقالت: إني أجد في نفسي ثقلاً عظيماً كأني مريضةٌ وأخاف أن يثقل علي ذلك فقلن لها سمعاً وطاعةً فلبسن ثيابهن ثم توجهن إلى الشاطئ ونزلن في الزورق وإذا بالبستاني قد أقبل على إبراهيم وما عنده علمٌ بالذي جرى له فقال له: يا إبراهيم ما لك حظٌ في التلذذ برؤيتها فأن من عادتها أن تقيم هنا ثلاثة أيامٍ وأنا أخاف أن تكون رأتك فقال إبراهيم: ما رأتني ولا رأيتها ولا خرجت من القبة قال: صدقت يا ولدي فأنها لو رأتك لكنا هلكنا ولكن أقعد عندي حتى تأتي لي الأسبوع الثاني وتراها وتشبع من النظر إليها فقال إبراهيم: أن معي مالاً وأخاف عليه وورائي رجالٌ فأخاف أن يستغيبوني فقال: يا ولدي أنه يعز علي فراقك ثم عانقه وودعه ثم أن إبراهيم توجه إلى الخان الذي كان نازلاً فيه وقابل بواب الخان وأخذ ماله فقال بواب الخان: خير إن شاء الله فقال له إبراهيم: إني ما وجدت إلى حاجتي سبيلاً وأريد أن أرجع إلى أهلي فبكى بواب الخان وودعه وحمل أمتعته وأوصله إلى المركب وبعد ذلك توجه إلى المحل الذي قالت له عليه وانتظرها فيه.
فلما جن الليل وإذا قد أقبلت عليه وهي في زي رجلٍ شجاعٍ بلحيةٍ مستديرةٍ ووسطٍ مشدودٍ بمنطقةٍ وفي إحدى يديها قوس ونشاب وفي الأخرى سيفٌ مجردٌ وقالت له: هل أنت ابن الخصيب صاحب مصر? فقال له إبراهيم: هو أنا فقالت له: وأي علق أنت حتى جئت تفسد بنات الملوك قم كلم السلطان قال إبراهيم: فوقعت مغشياً علي وأما الملاحون فإنهم ماتوا في جلدهم من الخوف فلما رأت ما حل بي خلعت تلك اللحية ورمت السيف وحلت المنطقة فرأيتها هي السيدة جميلة فقلت لها: والله إنك قطعت قلبي ثم قلت للملاحين: اسرعوا في سير المركب فحلوا الشراع وأسرعوا في السير فما كان إلا أيامٌ قلائل حتى وصلنا إلى بغداد وإذا بمراكب واقفةٍ على جانب الشط فلما رآنا الملاحون الذين معنا صاروا يقولون: يا فلان ويا فلان نهنئكم بالسلامة دفعوا مراكبهم على مركبنا فنظرنا فإذا فيها أبو القاسم الصندلاني فلما رآنا قال: إن هذا هو مطلوبي امضوا في وداعة الله وأنا أريد التوجه إلى غرضٍ وكان بين يديه شمعةً ثم قال لي: الحمد لله على السلامة هل قضيت حاجتك? قلت: نعم فقرب الشمعة منا فلما رأته جميلة تغير حالها واصفر لونها ولما رآها الصندلاني قال: اذهبوا في أمان الله أنا رائحٌ إلى البصرة في مصلحة للسلطان ولكن الهدية لمن حضر.
ثم أحضر علبةً من الحلويات ورماها في مركبنا وكان فيها البنج فقال إبراهيم: يا قرة عيني كلي من هذا فبكت وقالت: يا إبراهيم أتدري من هذا? قلت: نعم هذا فلان قالت: أنه ابن عمي وكان سابقاً قد حضر ليخطبني من والدي فما رضيت به وهو متوجه إلى البصرة فربما عرف أبي بنا فقلت: يا سيدتي هو لا يصل إلى البصرة حتى نصل نحن إلى مصر ولم يعلما بما هو مخبوء لهما في الغيب فأكلت شيئاً من الحلاوة فما نزلت جوفي حتى ضربت الأرض برأسي فلما كان وقت السحر عطست فخرج البنج من منخاري وفتحت عيني فرأيت نفسي عرياناً مرمياً في الخراب فلطمت على وجهي وقلت في نفسي: إن هذه الحيلة عملها في الصندلاني فسرت لا أدري أين اذهب وما علي سوى سروال.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 923
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 924
فقمت وتمشيت قليلاً وإذا بالوالي أقبل علي ومعه جماعةً بسيوفٍ ومطارقٍ فخفت فرأيت حماماً خرباً فتواريت فيه فعثرت رجلي في شيءٍ فوضعت يدي عليه فتلوثت بالدم فمسحتها في سروال ولم أعلم ما هو ثم مددت يدي إليه ثانياً فجاءت على قتيلٍ وطلعت رأسه في يدي فرميتها وقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم دخلت زاوية من زوايا الحمام وإذا بالوالي واقفٌ على باب الحمام وقال: ادخلوا هذا المكان وفتشوه فدخل منهم عشرةٌ بالمشاعل فمن خوفي دخلت وراء حائطٍ فتأملت تلك المقتول فرأيتها صبية ووجهها كالبدر ورأسها في ناحيةٍ وجثتها في ناحيةٍ وعليها ثياب ثمينة فلما رأيتها وقعت الرجفة في قلبي ودخل الوالي وقال: فتشوا واجهات الحمام فدخلوا الموضع الذي أنا فيه فنظرني رجلٌ منهم فجاءني وبيده سكين طولها نصف ذراعٍ فلما قرب مني قال: سبحان الله خالق هذا الوجه الحسن يا غلام من أين أنت? ثم أخذ بيدي وقال: يا غلام لأي شيءٍ قتلت هذه المقتولة? فقلت: والله ما قتلتها وما أعرف من قتلها وما دخلت هذا المكان إلا فزعاً منكم وأخبرته بقصتي وقلت له: بالله عليك لا تظلمني فأني مشغولٌ بنفسي فأخذني وقدمني إلى الوالي فلما رأى على يدي أثر الدم قال: هذا لا يحتاج إلى بينة فاضربوا عنقه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والخمسين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ابن الخصيب قال: فلما قدموني للوالي ورأى على يدي أثر الدم قال: هذا ما يحتاج إلى بينة فاضربوا عنقه فلما سمعت هذا الكلام بكاءً شديداً وجرت مني دموع العين وأنشدت هذين البيتين: مشيناها خطى كتبت علـينـا ومن كتبت عليه خطى مشاها
ومن كانت منـيتـه بـأرضٍ فليس يموت في أرضٍ سواها
ثم شهقت شقهةً فوقعت مغشياً علي فرق لي قلب الجلاد وقال: والله هذا وجه من لا يقتل فقال الوالي: اضربوا عنقه فأجلسوني في نطع الدم وشدوا علي عيني غطاء وأخذ السياف سيفه واستأذن الوالي وأراد أن يضرب عنقي فصحت: وأغربتاه وإذا الخيل قد أقبلت وقائلٌ يقول: دعوه أمنع يدك يا سياف، وكان لذلك سبباً عجيباً وأمراً غريباً وهو أن الخصيب صاحب مصر كان قد أرسل حاجبه إلى الخليفة هارون الرشيد ومعه هدايا وتحف وصحبته كتاب يذكر له فيه: أن ولدي قد فقد منذ سنة وقد سمعت أنه ببغداد، والمقصود من إنعام خليفة الله أن يفحص عن خبره ويجتهد في طلبه ويرسل إلي مع الحاجب. فلما قرأ الخليفة الكتاب أمر الوالي أن يبحث عن حقيقة خبره فلم يزل الوالي والخليفة يسألان عنه حتى قيل له أنه بالبصرة وأمره أن يسافر إلى البصرة ويأخذ معه جماعةً من أتباع الوزير في حرص الحاجب فلما رأى الوالي الحاجب وعرفه ترجل إليه فقال له الحاجب: ما هذا الغلام وما شأنه? فأخبره بالخبر الحاجب والحال أنه لم يعرف أنه ابن السلطان إن وجه هذا الغلام وجه من لا يقتل وأمره بحل وثاقه فحله فقال: قدمه إلي، فقدمه إليه وكأن ذهب جماله من شدة الأهوال فقال له الحاجب: أخبرني بقضيتك يا غلام وما شأن هذه المقتولة معك?
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 924
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 925
فلما نظر إبراهيم إلى الحاجب عرفه فقال له: ويلك أما تعرفني? أما أنا إبراهيم ابن سيدك فلعلك جئت في طلبي فأمعن الحاجب فيه النظر فعرفه غاية المعرفة فلما عرفه انكب على أقدامه فلما رأى الوالي ما حصل من الحاجب اصفر لونه فقال له الحاجب: ويلك يا جبار هل كان مرادك أن تقتل ابن سيدي الخصيب صاحب مصر? فقبل الوالي ذيل الحاجب وقال له: يا مولاي من أين أعرفه وإنما رأيناه على هذه الصفة ورأينا الضبية مقتولة بجبانة فقال: ويلك أنك لا تصلح للولاية هذا غلام له من العمر خمسة عشر عاماً وما قتل عصفوراً فكيف يقتل قتيلاً? هلا أمهلته وسألته عن حاله، ثم قال الحاجب والوالي: فتشوا على قاتل الصبية فدخلوا الحمام ثانياً فرأوا قاتلها فأخذوه وأتوا به الوالي فأرسله دار الخلافة وأعلم الخليفة بما جرى فأمر الرشيد بقتل قاتل الصبية ثم أمر بإحضار ابن الخصيب فلما تمثل بين يديه تبسم الرشيد في وجهه وقال له: أخبرني بقضيتك وما جرى لك? فحدثه بحديثه من أوله إلى أخره فعظم ذلك عنده فنادى مسرور السياف وقال: اذهب في هذه الساعة وأهجم على دار أبي القاسم الصندلاني وائتني به وبالصبية فمضى من ساعته وهجم على داره فرأى الصبية في وثاقٍ من شعرها وهي في حالة التلف فحلها مسرور وأتى بها وبالصندلاني فلما رآها الرشيد تعجب من جمالها ثم التفت إلى الصندلاني وقال: خذوه واقطعوا يديه اللتين ضرب بهما هذه الصبية واصلبوه وسلموا أمواله وأملاكه إلى إبراهيم ففعلوا ذلك فبينما هم كذلك وإذا بأبي الليث عامل البصرة والد السيدة جميلة قد أقبل عليهم يستغيث بالخليفة من إبراهيم بن الخصيب صاحب مصر ويشكوا إليه أنه أخذ ابنته فقال له الرشيد أنه كان سبباً في خلاصها من العذاب والقتل وأمر بإحضار ابن الخصيب فلما حضر قال أبي الليث: ألا ترضى أن يكون هذا الغلام ابن السلطان مصر بعلاً لابنتك فقال سمعاً وطاعةً لله ولك يا أمير المؤمنين فدعا الخليفة بالقاضي والشهود وزوج الصبية بإبراهيم ابن الخصيب ووهب له جميع أموال الصندلاني وجهزه إلى بلاده وعاش معها في أتم سرور وفي حبور إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات فسبحان الحي الذي لا يموت.
حكاية أبي الحسن الخراساني الصيرفي مع شجرة الدر
ومما يحكى أيضاً أيها الملك السعيد أن المعتضد بالله كان عالي الهمة شريف النفس وكان له ببغداد ستمائة وزير وما كان يخفى عليه من أمور الناس شيء، فخرج يوماً هو وابن خلدون يتفرجان على الرعايا ويسمعان ما يتجدد من أخبار الناس فحمي عليهما الحر والهجير وقد انتهيا إلى زقاقٍ لطيفٍ في شارعٍ فدخلا ذلك الزقاق فرأيا في صدر الزقاق داراً حسنةً شامخة البناء تفصح عن صاحبها بلسان الثناء فقعدا على الباب يستريحان فخرج من تلك الدار خادمان وجه كل منهما كالقمر ليلة أربعة عشر فقال أحدهما لصاحبه: لو استأذن اليوم ضيف لأن سيدي لا يأكل إلا مع الضيفان، وقد صرنا إلى هذا الوقت ولم أر أحداً.
فتعجب الخليفة من كلامهما وقال: إن هذا دليلٌ على كرم صاحب الدار ولا بد أن ندخل داره وننظر مرؤوته ويكون ذلك سبباً في نعمة تصل إليه منه. ثم قال للخادم: استأذن سيدك في قدوم جماعة أغراب، وكان الخليفة في ذلك الزمان إذا أراد الفرجة على الرعية تنكر في زي التجار فدخل الخادم على سيده وأخبره ففرح وقام وذهب إليهما بنفسه وإذا به جميل الوجه حسن الصورة وعليه قميص نيسابوري ورداءٍ مذهب وهو مضمخ بالطيب وفي يده خاتمٌ من الياقوت، فلما رآهما قال: أهلاً وسهلاً بالسادة المنعمين علينا غاية الإنعام بقدومهما، فلما دخلا تلك الدار رأياها تنسي الأهل الأوطان كأنها قطعة من الجنان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والخمسين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة لما دخل الدار هو ومن معه رأياها تنسي الأهل والأوطان كأنها قطعة من الجنان ومن داخلها بستان فيه من سائر الأشجار وهي تدهش الأبصار وأماكنها مفروشةً بنفائس الفرش فجلسوا وجلس المعتضد يتأمل في الدار والفرش، فقال ابن حمدان: فنظرت إلى الخليفة فرأيت وجهه قد تغير وكنت أعرف من وجهه حال الرضا والغضب، فلما رأيته قلت في نفسي، يا ترى ما باله حتى غضب?
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 925
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 926
ثم جاؤوا بطشت من الذهب فغسلنا أيدينا ثم جاؤوا بسفرةٍ من الحرير وعليها مائدة من الخيزران فلما انكشفت الأغطية عن الأواني رأينا طعاماً كزهر الربيع في عز الأوان صنوان وغير صنوان. ثم قال صاحب الدار: بسم الله يا سادتنا والله أن الجوع قد أضناني فأنعموا علي بالأكل من هذا الطعام كما هو أخلاق الكرام وصاحب الدار يفسخ الدجاج ويضعه بين أيدينا ويضحك وينشد الأشعار ويورد الأخبار ويتكلم بلطيف ما يليق بالمجلس.
وقال ابن حمدان: فأكلنا وشربنا ثم نقلنا إلى مجلسٍ آخر يدهش الناظرين تفوح منه الروائح الزكية، ثم قدم لنا سفرة فاكهةٍ جنيةٍ وحلوياتٍ شهيةٍ فزادت أفراحنا وزالت أتراحنا. قال ابن حمدان: ولم يزل الخليفة في عبوس ولم يبتسم لما فيه فرح النفوس مع أن عادته أنه يحب اللهو والطرب ودفع الهموم وأنا أعرف أنه غير حسودٍ ولا ظلومٍ فقلت في نفسي يا ترى ما سبب عبوسه وعدم زوال بؤسه? ثم جاؤوا بطبق الشراب ومجمع شمل الأحباب وأحضروا الشراب المروق وبواطي الذهب والبخور والفضة وضرب صاحب الدار على باب مقصورةٍ بقضيبٍ من الخيزران وإذا بباب المقصورة قد فتح وخرج منه ثلاث جوار نهد أبكارٍ وجوههن كالشمس في رابعة النهار وتلك الجواري ما بين عوادةٍ وجنكيةٍ ورقاصةٍ، ثم قدم لنا النقل والفواكه.
قال ابن حمدان: فضرب بيننا وبين الثلاث جوارٍ ستارةً من الديباج وشراريبها من الأبريسيم وحلقاتها من الذهب فلم يلتفت الخليفة إلى هذا جميعه وصاحب الدار لم يعلم من هو الذي عنده، فقال الخليفة لصاحب الدار: أشريفٌ أنت? لا يا سيدي إنما أنا رجلٌ من أولاد التجار أعرف بين الناس بأبي الحسن علي ابن أحمد الخراساني، فقال له الخليفة: أتعرفني يا رجل? قال له: والله يا سيدي ليس لي معرفةٌ بأحدٍ من جنابكم الكريم، فقال له ابن حمدان: يا رجل هذا أمير المؤمنين المعتضد بالله حفيد المتوكل على الله، فقام الرجل وقبل الأرض بين يدي الخليفة وهو يرتعد من خوفه، وقال: يا أمير المؤمنين بحق آبائك الطاهرين أن كنت رأيت مني تقصيراً أو قلة أدبٍ بحضرتك أن تعفو عني.
فقال الخليفة: أما ما صنعته معنا من الإكرام فلا مزيد عليه، وأما ما أنكرته عليك هنا فإن صدقتني حديثه واستقر ذلك بعقلي نجوت مني وأن لم تعرفني حقيقته أخذتك بحجةٍ واضحةٍ وعذبتك عذابا لم أعذب أحداً مثله. قال: معاذ الله أن أحدث بالمحال، وما الذي أنكرته على أمير المؤمنين? فقال الخليفة: أنا من حين دخلت الدار وأنا أنظر إلى حسنها وأوانيها وفراشها وزينتها، حتى ثيابك ولماذا عليها اسم جدي المتوكل على الله? قال: نعم أعلم يا أمير المؤمنين أيدك الله الحق شعارك والصدق وداءك ولا قدرة لأحدٍ على أن يتكلم بغير الصدق في حضرتك، فأمره بالجلوس فجلس فقال له: حدثني فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أيدك الله بنصره وحقك بلطائف أمره أنه لم يكن ببغداد أحداً يسر مني ولا من أبي ولكن أخل لي ذهنك وسمعك وبصرك حتى أحدثك بسبب ما أنكرته علي، فقال له الخليفة: قل حديثك فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أنه كان أبي يسوق الصيارف والعطارين والبزازين وكان له في كل سوقٍ حانوت ووكيل وبضائع من سائر الأصناف وكان له حجرةً من داخل الدكان التي بسوق الصيارف لأجل الخلوة فيها وجعل الدكان لأجل البيع والشراء وكان ماله يكثر عن العد ويزيد عن الحد ولم يكن له ولد غيري وكان محباً لي وشفوقاً علي فلما حضرته الوفاة دعاني وأوصاني بوالدتي وبتقوى الله تعالى ثم مات رحمه الله وأبقى أمير المؤمنين فاشتغلت باللذات وأكلمت وشربت ثم اتخذت الأصحاب والأصدقاء وكانت أمي تنهاني عن ذلك وتلومني عليه فلم أسمع كلامها حتى ذهب المال جميعه وبعت العقار ولم يبق لي شيءٌ غير الدار التي أنا فيها وكانت داراً حسنةً يا أمير المؤمنين.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 926
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 927
فقلت لأمي: أريد أن أبيع الدار فقالت: يا ولدي أن بعتها تفتضح ولا تعرف مكاناً تأوي إليه فقلت: هي تساوي خمسة الألف دينارٍ فأشتري من جملة ثمنها داراً بألف دينارٍ ثم أتجر بالباقي فقالت: أتبيعني هذه الدار بهذا المقدار? قلت: نعم فجاءت إلى طابقٍ وفتحته وأخرجت منه إناءً من الصيني فيه خمسةً الآلف دينارٍ فخيل إلي أن الدار كلها ذهب فقالت لي: يا ولدي لا تظن أن هذا المال مال أبيك والله يا ولدي أنه من مال أبي وكنت أدخرته لوقت الحاجة إليه فأني كنت في زمن أبيك غنية عن الاحتياج إلى هذا المال فاتخذت المال منها يا أمير المؤمنين وعدت لما كنت عليه من المأكل والمشرب والصحبة حتى نفذت الخمسة الألف دينارٍ ولم أقبل من أمي كلاماً ولا نصيحةً ثم قلت لها: مرادي أن أبيع الدار فقالت: يا ولدي قد نهيتك عن بيعها لعلمي أنك محتاج إليها فكيف تريد بيعها ثانياً? فقلت لها: لا تطيلي علي الكلام فلا بد من بيعها فقالت: بعني إياها بخمسة عشر ألف دينارٍ بشرط أن أتولى شؤونك بنفسي فبعتها لها بذلك المبلغ على أن تتولى أموري بنفسها فطلبت وكلاء أبي وأعطت كل واحدٍ منهم ألف دينار ووضعت المال تحت يدها والأخذ والعطاء معها وأعطتني بعضاً من المال لأتجر فيه وقالت لي: أقعد أنت في دكان أبيك فعملت ما قالت أمي يا أمير المؤمنين وجئت إلى الحجرة التي في سوق الصيارف وجاء أصحابي وصاروا يشترون مني وأبيع لهم وطاب لي الربح وكثر مالي.
فلما رأتني أمي على هذه الحالة الحسنة أظهرت لي ما كان مدخراً عندها من جواهرٍ ومعادنٍ ولؤلؤٍ وذهبٍ ثم أعادت أملاكي التي كان وقع فيها التفريط وكثر مالي كما كان ومكثت على هذه الحال مدة وجاء وكلاء أبي فأعطيتهم البضائع ثم بنيت حجرةً ثانيةً من داخل الدكان.
فبينما أنا قاعدٌ فيها يا أمير المؤمنين وإذا بجاريةٍ قد جاءت إلي لم تر العيون أجمل منها منظراً فقالت: هذه حجرة أبي الحسن علي بن أحمد الخراساني? قلت لها: نعم، قالت: أين هو? فقلت: هو أنا، ولكن اندهش عقلي من فرط جمالها يا أمير المؤمنين، ثم أنها قعدت وقالت لي: قل للغلام يزن لي ثلاثمائة دينار فأمرته أن يزن لها المقدار فوزنه لها فأخذته وانصرفت وأنا ذاهل العقل فقال لي غلامي: أتعرفها? قلت: لا والله قال: فلم قلت لي زن لها? فقلت: والله أني لم أدر ما أقول مما بهرني من حسنها وجمالها.
فقام الغلام وتبعها من غير علمي ثم رجع وهو يبكي وبوجهه أثر ضربةٍ، فقلت له: ما بالك? فقال: أني تبعت الجارية لأنظر أين تذهب فلما أحست بي رجعت وضربتني هذه الضربة فكادت أن تتلف عيني، ثم مكثت شهراً لم أرها ولم تأت وأنا ذاهل العقل في هواها يا أمير المؤمنين، فلما كان آخر الشهر وإذا بها جاءت وسلمت على فكدت أن أطير فرحاً فسألتني عن خبري وقالت: لعلك قلت في نفسك ما شأن هذه المحتالة كيف أخذت مالي وانصرفت فقلت: والله يا سيدتي أن مالي وروحي ملكٌ لك، فأسفرت عن وجهها وجلست لتستريح والحلي والحلل تلعب على وجهها وصدرها ثم قالت: زن لي ثلاثمائة دينار فقلت سمعاً وطاعةً.
ثم وزنت لها الدنانير فأخذتها وانصرفت فقلت للغلام: أتبعها فتبعها ثم عاد لي وهو مبهوتٌ ومضت، فبينما أنا جالسٌ في بعض الأيام وإذا بها قد جاءت إلي وتحدثت ساعةً ثم قالت لي: زن لي خمسمائة دينارٍ فأني قد أحتجت إليها، فأردت أن أقول لها على أي شيءٍ أعطيك مالي فمنعني فرط الغرام من الكلام وأنا يا أمير المؤمنين كلما رأيتها ترتعد مفاصلي ويصفر لوني وأنسى ما أريد أن أقول وأصير أقول كما قال الشاعر: كما هو إلا أن أراها فجأة فأبهت حتى لا أكاد أجيب
ثم وزنت لها الخمسمائة دينارٍ فأخذتها وانصرفت فقمت وتبعتها بنفسي إلى أن وصلت إلى سوق الجواهر فوقفت عند إنسانٍ فأخذت منه عقداً والتفتت فرأتني فقالت: زن لي خمسمائة دينار، فلما نظرني صاحب العقد قام إلي وعظمني فقلت له: أعطها العقد وثمنه علي فقال: سمعاً وطاعةً فأخذت العقد وانصرفت.
سفرت عنوأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الستين بعد التسعمائة
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 927
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 928
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا الحسن الخراساني قال: فقلت له أعطها العقد وثمنه علي فأخذت العقد وانصرفت فتبعتها حتى جاءت إلى الدجلة ونزلت في مركبٍ فأومأت إلى الأرض لأقبلها بين يديها فذهبت وضحكت ومكثت واقفاً انظرها إلى أن دخلت قصراً فتأملتها فإذا هو قصر الخليفة المتوكل فرجعت يا أمير المؤمنين وقد حل بقلبي كل همٍ في الدنيا وكانت قد أخذت مني ثلاثة آلاف دينارٍ فقلت في نفسي: قد أخذت مالي وسلبت عقلي وربما تلفت نفسي في هواها.
ثم رجعت إلى داري وقد حدثت أمي بجميع ما جرى لي فقالت لي: يا ولدي إياك أن تتعرض لها بعد ذلك فتهلك، فلما رحت إلى دكاني جاءني وكيلي الذي بسوق العطارين وكان شيخاً كبيراً فقال لي: يا سيدي ما لي أراك متغير الحال يظهر عليك أثر الكآبة فحدثني بخبرك? فحدثته بجميع ما جرى لي معها فقال لي: يا ولدي أن هذه من جواري قصر أمير المؤمنين وهي محظية الخليفة فاحتسب المال لله تعالى ولا تشغل نفسك بها وإذا جاءتك فاحذر أن تتعرض لها وأعلمني بذلك حتى أدبر لك أمراً لئلا يحصل لك ثم تركني وذهب وفي صدري لهيب النار.
فلما كان أخر الشهر إذ بها جاءت إلي ففرحت بها غاية الفرح، فقالت لي: ما حملك على أن تتبعني? فقلت لها: حملني على ذلك فرط الوجد الذي بقلبي وبكيت بين يديها فبكت رحمةً وقالت: والله ما في قلبك شيءٌ من الغرام إلا وفي قلبي أكثر منه ولكن كيف أعمل، والله ما لي من سبيل غير أني أراك في كل شهرٍ مرةٍ.
ثم دفعت إلي ورقةً وقالت: خذ هذه إلى فلان الفلاني فأنه وكيلي وأقبض منه ما فيها فقلت: ليس لي حاجة بمال ومالي وروحي فداك، فقالت: سوف أدبر لك أمراً يكون فيه وصولك إلي وأن كان فيه تعبٌ ثم ودعتي وانصرفت فجئت إلى الشيخ وأخبرته بما جرى فجاء معي إلى دار المتوكل فرأيتها هي والمكان الذي دخلت فيه الجارية فصار الشيخ متحيراً في حيلةٍ يفعلها فرأى خياطاً قبل الشباك المطل على الشاطئ وعنده صناعٌ فقال: بهذا تنال مرادك ولكن أفتق جيبك وتقدم إليه وقل له أن يخيطه فإذا خاطه فادفع له عشرة دنانيرٍ فقلت: سمعاً وطاعةً، ثم توجهت إلى الخياط وأخذت معي شقتين من الديباج الرومي وقلت له: فصل لي هاتين أربعة ملابسٍ اثنين فرجية واثنين غير فرجية.
فلما فرغ الخياط من تفصيل الملابس وخياطتها أعطيته أجريتها زيادة عن العادة بكثيرٍ، ثم مد يده إلى تلك الملابس فقلت: خذها لك ولمن حضر عندك، وصرت أقعد عنده وأطيل القعود معه ثم فصلت عنده غيرها وقلت له: علقه على وجه الدكان لمن ينظره فيشتريه ففعل، وصار كل من خرج من قصر الخليفة وأعجبه شيءٌ من الملابس وهبته له حتى البواب، فقال الخياط: يا مأمن الأيام أريد يا ولدي أن تصدقني حديثك لأنك فصلت عندي مائة حلةٍ ثمينةٍ ولك حلةٌ تساوي جملةً من المال ووهبت غالبها للناس وهذا ما هو فعل تاجرٍ لأن التاجر يحاسب على الدرهم وما مقدار رأس مالك حتى تعطي هذه العطايا وما يكون مكسبك في كل يومٍ فأخبرني خبراً صحيحاً حتى أعاونك على مرادك ثم قال: أناشدك الله أما أنت عاشقٌ? قلت: نعم، فقال: لمن? قلت: لجاريةٍ من جواري قصر الخليفة فقال: قبحهن الله كم يفتن الناس ثم قال: هل تعرف اسمها? قلت: لا فقال: صفها لي، فوصفتها له فقال: ويلاه هذه عوادة الخليفة المتوكل والمحظية عنده لكن لها مملوك فأجعل بينك وبينه صداقةً لعله يكون سبباً في اتصالك بها فبينما نحن في الحديث وإذا بالملوك مقبلٌ من الخليفة وهو كأنه القمر في ليلة أربعة عشر وبين يدي الثياب التي خاطها لي الخياط وكانت من الديباج من سائر الألوان فصار ينظر إليها ويتأمل ثم أقبل علي فقمت وسلمت عليه فقال: من أنت? فقلت: رجلٌ من التجار، قال: أتبيع هذه الثياب? قلت: نعم فأخذ منها خمسةٌ وقال: بكم الخمسة? فقلت: هي هدية مني إليك عقد صحبةٍ بيني وبينك ففرح بها ثم جئت إلى بيتي وأخذت له ملبوساً مرصعاً بالجواهر واليواقيت قيمته ثلاثة ألاف دينارٍ وتوجهت به إليه فقبل مني ثم أخذني ودخل بي حجرةً في داخل القصر وقال:
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 928
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 929
ما اسمك بين التجار? فقلت له: رجلاً منهم فقال: قدر ابني أمرك فقلت: لماذا? قال: أنك أهديت لي شيئاً كثيراً ملكت قلبي به وقد صح عندي أنك أبو الحسن الخراساني أكثر الصيرفي، فبكيت يا أمير المؤمنين فقال لي: لم تبكي? فو الله التي تبكي من أجلها عندها من الغرام بك أكثر مما عندك من الغرام بها وأعظم وقد شاع عند جميع جواري القصر خبرها معك. ثم قال لي: وأي شيءٍ تريد? فقلت: أريد أنك تساعدني في بليتي فوعدني إلى الغد، فمضيت إلى داري، فلما أصبحت وتوجهت إليه ودخلت حجرته قال: أعلم أنها لما فرغت من خدمتها عند الخليفة بالأمس ودخلت حجرتها حدثتها بحديثك جميعه وقد عزمت على الاجتماع بك فاقعد عندي إلى آخر النهار فقعدت عنده.
فلما جن الليل إذا بالمملوك أتى ومعه قميصٌ منسوجٌ من الذهب وحلةٌ من حلل الخليفة فألبسني إياها وبخرني فصرت أشبه بالخليفة ثم أخذني إلى محلٍ فيه الحجر صفين من الجانبين وقال: هذه حجرة الجواري الخواص فإذا مررت عليها فضع على كل بابٍ من الأبواب حبةً من الفول لأنه من عادة الخليفة أن يفعل هكذا في كل ليلةٍ.
وفي الليلة الواحدة والستين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن المملوك لما قال لأبي الحسن: فإذا مررت عليها فضع على كل بابٍ من الأبواب حبةً من الفول لأن من عادة الخليفة أن يفعل هكذا إلى أن تأتي إلى الدرب الثاني الذي على يدك اليمنى فترى حجرةً عتبة بابها من المرمر فإذا قدمت إليها فمسها بيدك أن شئت فعد الأبواب فهي كذا وكذا باباً فأدخل الباب الذي علامته كذا وكذا فتراك صاحبتك وتأخذك عندها، وأما خروجك فإن الله يهون علي فيه ولو أخرجك في صندوقٍ.
ثم تركني ورجع وصرت أمشي وأعد الأبواب واضع على كل بابٍ حبة فولٍ: فلما صرت في وسط الحجر سمعت ضجةً عظيمةً ورأيت ضوء شموع وأقبل ذلك الضوء نحوي حتى قرب مني فتأملته فإذا هو الخليفة وحوله الجواري ومعهن الشموع فسمعت واحدةً منهن تقول لصاحبتها: يا أختي هل نحن لنا خليفتان? على أن الخليفة قد جاز حجرتي وشممت رائحة العطر والطيب ووضع حبة الفول على حجرتي كعادته، وفي هذه الساعة أرى ضوء شموع للخليفة وها هو مقبلٌ. فقالت: أن هذا الأمر عجيب لأن التزيي بزي الخليفة لا يجسر عليه أحدٌ، ثم قرب الضوء مني فارتعدت أعضائي وإذا بخادمٍ يصيح على الجواري ويقول: ههنا، فانعطفوا إلى حجرةٍ من الحجر ودخلوا ثم خرجوا ومشوا حتى وصلوا إلى بيت صاحبتي فسمعت الخليفة يقول: حجرة من هذه? فقالوا: هذه حجرة شجرة الدر فقال: نادوها فنادوها فخرجت وقبلت أقدام الخليفة فقال لها: أتشربين الليلة? فقالت: أن لم يكن لحضرتك والنظر إلى طلعتك فلا أشرب فأنني لا أميل إلى الشراب في هذه الليلة، فقال للخازن: ادفع لها العقد الفلاني.
ثم أمر بالدخول إلى حجرتها فدخلت بين الشموع وإذا بجاريتها أمامهم وضوء وجهها غالبٌ على ضوء الشمعة التي بيدها فقربت مني وقالت: من هذا? ثم قبضت علي وأخذتني إلى حجرةٍ من الحجر وقالت لي: من أنت? فقلبت الأرض بين يديها وقالت لها: أناشدك الله يا مولاتي أن تحقني دمي وترحميني وتتقربي إلى الله بانقاذ مهجتي وبكيت فزعاً من الموت، فقالت: لا ريب أنك لصٌ? فقلت: لا والله ما أنا لصٌ فهل ترين علي أثر اللصوص? فقالت: أصدقني خبرك وأنا أجعلك في أمانٍ، فقلت: أنا جاهلٌ أحمقٌ قد حملتني الصبابة وجهلي على ما ترين مني حتى وقعت في هذه الورطة، فقالت: قف هنا أجيء إليك.
ثم خرجت وجاءتني بثياب جاريةٍ من جواريها وألبستني تلك الثياب في تلك الزاوية وقالت: تعال خلفي فمشيت خلفها حتى وصلت إلى حجرتها وقالت: ادخل هنا فدخلت حجرتها فجاءت بي إلى سريرٍ وعليه فرشٌ عظيمٌ وقالت: أجلس لا بأس عليك أما أنت أبو الحسن الخراساني? قلت: بلى قالت: قد حقن الله دمك أن كنت صادقاً ولم تكن لصاً فأنك تهلك لا سيما وأنت في زي الخليفة ولباسه وبخوره، وأما أن كنت أبا الحسن الخراساني الصيرفي فأنك قد أمنت ولا بأس عليك فأنك صاحب شجرة الدر التي هي أختي فأنها لا تقطع خبرها عنك أبداً وتخبرنا كيف أخذت منك المال ولم تتغير وكيف جئت وراءها إلى الشاطئ وأومأت لها إلى الأرض تعظيماً وفي قلبها منك الحب أكثر مما في قلبك منها، ولكن كيف وصلت إلى ههنا بأمرها أم بغير أمرها بل خاطرت بنفسك وما مرادك من الاجتماع?
فنهض الغلام ونزل في المركب وودعه وسار حتى وصل إلى البصرة فأخرج الغلام مائة دينارٍ للملاحين فقالوا له: نحن أخذنا الأجرة من سيدنا، فقال لهم: خذوها إنعاماً وأنا لا أخبره بذلك فأخذوها منه ودعوا له، ثم دخل الغلام البصرة وسأل: أين مسكن التجار? فقالوا له: في خان يسمى خان حمدان فمشى حتى وصل إلى السوق الذي فيه الخان فامتدت إليه الأعين بالنظر من فرط حسنه وجماله ثم دخل الخان مع رجلٌ ملاحٍ وسأل عن البواب فدلوه عليه فرآه شيخاً كبيراً مهاباً فسلم عليه فرد عليه السلام فقال: يا عم هل عندك حجرةً ظريفةً? قال: نعم.
ثم أخذه هو والملاح وفتح لهما حجرةً ظريفةً مزركشةً بالذهب، وقال يا غلامٍ أن هذه الحجرة تصلح لك فأخرج الغلام دينارين وقال له: خذ هذين حلوان المفتاح فأخذهما ودعا له وأمر الغلام الملاح بالذهاب إلى المركب ثم دخل الحجرة فاستمر عند بواب الخان وخدمه وقال له: يا سيدي حصل لنا بك السر فأعطاه الغلام ديناراً وقال له: هات لنا به خبزاً ولحماً وحلوى وشراباً فأخذه وذهب به إلى السوق ورجع إليه وقد اشترى ذلك بعشرة دراهم وأعطاه الباقي فقال الغلام: اصرفه على نفسك ففرح البواب بذلك فرحاً عظيماً ثم أن الغلام أكل مما طلبه قرصاً واحداً بقليل من الآدم وقال لبواب الخان: خذ هذا إلى أهل منزلك فأخذه وذهب به إلى أهل منزله وقال لهم: ما أظن أن أحداً على وجه الأرض أكرم من الغلام الذي سكن عندنا في هذا اليوم ولا أحلى منه فإن دام عندنا حصل لنا الغنى.
ثم أن بواب الخان دخل على إبراهيم فرآه يبكي فقعد وصار يكبس رجليه ثم قبلهما وقال: يا سيدي لأي شيءٍ تبكي لا أبكاك الله? فقال: يا عم أريد أن أشرب أنا وأنت في هذه الليلة فقال سمعاً وطاعةً فأخرج له خمسة دنانيرٍ وقال له: اشتر لنا بها فاكهةً وشراباً ثم دفع له خمسة دنانيرٍ أخرى وقال له: اشتر لنا بهذه نقلاً ومشموماً وخمس فراخٍ سمان وأحضر لي عوداً فخرج واشترى له ما أمره به وقال لزوجته: ضعي هذا الطعام وصفي لنا هذا الشراب وليكن ما تصنعينه جيداً فإن هذا الغلام قد عمنا بإحسانه فصنعت زوجته ما أمرها به على غاية المراد. ثم أخذه ودخل على إبراهيم ابن السلطان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والخمسين بعد التسعمائة
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 918
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 919
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بواب الخان لما صنعت زوجته الطعام والشراب أخذه ودخل به على ابن السلطان فأكلا وشربا وطربا فبكى الغلام وأنشد هذين البيتين: يا صاحبي لو بذلت الروح مجتهداً وجملة المال والدنيا وما فـيهـا
وجنة الخلد والفردوس أجمعهـا بساعة الوصل كان القلب شاريها
ثم شهق شهقةً عظيمةً وخر مغشياً عليه فتنهد بواب الخان فلما رآه أفاق قال له بواب الخان: يا سيدي ما يبكيك ومن هي التي تريدها بهذا الشعر فإنها لا تكون إلا تراباً لأقدامك? فقام الغلام وأخرج بقجةً من أحسن ملابس النساء وقال له: خذ هذه إلى حريمك فأخذها منه ودفعها إلى زوجته فأتت معه ودخلت على الغلام فإذا هو يبكي، فقالت له: فتت أكبادنا فعرفنا بأي مليحةٍ تريدها وهي لا تكون إلا جاريةً عندك. فقال: يا عم اعلم أني أنا ابن الخصيب صاحب مصر وإني متعلق بجميلة بنت أبي الليث العميد فقالت زوجة بواب الخان: الله الله يا أخي اترك هذا الكلام لئلا يسمع بنا أحد فنهلك فإنه ما على وجه الأرض أجبر منها ولا يقدر أحدٌ أن يذكر لها اسم رجلٍ لأنها زاهدةٌ في الرجال يا ولدي اعدل عنها لغيرها، فلما سمع كلامها بكى بكاءً شديداً فقال له بواب الخان: ما لي سوى روحي فأنا أخاطر بها في هواك وأدبر لك أمراً فيه بلوغ مرادك.
ثم خرجا من عنده فلما أصبح الصباح دخل الحمام ولبس حلةً من ملبوس الملوك وإذا ببواب الخان هو وزوجته قدما عليه وقالا له: يا سيدي اعلم أن هنا رجلاً خياطاً أحدب وهو خياط السيدة جميلة فاذهب إليه وأخبره بحالك فعساه بذلك على ما فيه وصولك إلى أغراضك فقام الغلام وقصد دكان الخياط الأحدب فدخل عليه فوجد عنده عشرة مماليكٍ، كأنهم الأقمار فسلم عليهم فردوا عليه السلام وفرحوا به وأجلسوه وتحيروا في محاسنه وجماله فلما رآه الأحدب اندهش عقله من حسن صورته فقال له الغلام: أريد أن تخبط لي جيبي فتقدم الخياط وأخذ فتلة من الحرير وخاطه وكان الغلام قد فتقه عمداً فلما خاطه أخرج له خمسة دنانيرٍ أعطاها له وانصرف إلى حجرته فقال الخياط: أي شيءٍ عملته لهذا الغلام حتى أعطاني الخمسة دنانير? ثم بات ليلته يفكر في حسنه وكرمه فلما أصبح الصباح ذهب إلى دكان الخياط الأحدب ثم دخل وسلم عليه فرد عليه السلام وأكرمه ورحب به فلما جلس قال للأحدب: يا عم خيط لي جيبي فإنه فتق ثانياً فقال له: يا ولدي على الرأس والعين ثم تقدم وخاطه فدفع له عشرة دنانير فأخذها وصار مبهوتاً من حسنه وكرمه، ثم قال له: والله يا غلام إن فعلك لا بد له من سببٍ وما هذا خبر خياطة جيب ولكن أخبرني عن حقيقة أمرك فإن كنت عشقت واحداً من هؤلاء الأولاد فو الله ما فيهم أحسن منك وكلهم تراب أقدامك وها هم عبيدك وبين يديك وإن كان غير هذا فأخبرني? فقال: يا عم ما هذا محل الكلام، فإن حديثي عجيبٌ وأمري غريبٌ قال: فإذا كان الأمر كذلك فقم بنا في خلودٍ، ثم نهض الخياط وأخذه بيده ودخل معه حجرةً في داخل الدكان وقال له: يا غلام حدثني ماذا تريد، فحدثه بأمره من أوله إلى آخره فبهت من كلامه وقال: يا غلام اتق الله في نفسك فإن التي ذكرتها جبارةٌ زاهدةٌ في الرجال فاحفظ يا أخي لسانك وإلا فأنك تهلك نفسك.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 919
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 920
فلما سمع الغلام كلامه بكى بكاءً شديداً ولزم ذيل الخياط وقال: أجرني يا عم فإني هالكٌ وقد تركت ملكي وملك أبي وجدي وصرت في البلاد غريباً وحيداً ولا صبر لي عنها، فلما رأى الخياط ما حل به رحمه وقال: يا ولدي ما عندي إلا نفسي فأنا أخاطر بها في هواك فإنك قد جرجرت قلبي ولكن في الغد أدبر لك أمراً ليطيب به قلبك فدعا له وانصرف إلى الخان فحدث بواب الخان بما قاله الأحدب فقال له: قد فعل معك جميلاً، فلما أصبح الصباح لبس الغلام أفخر ثيابه وأخذ كيساً فيه دنانير وأتى إلى الأحدب فسلم وجلس ثم قال له: يا عم انجز وعدي فقال له: قم في هذه الساعة وخذ ثلاث فراخٍ سمان وثلاث أوراقٍ من السكر النبات وكوزين لطيفين واملأهما شرابا وخذ قدحاً وضع ذلك في كارةٍ وأنزل بعد صلاة الصبح في زورقٍ مع ملاح وقل له: أريد أن تذهب بي تحت البصرة فإن قال لك: ما أقدر أن أعدي أكثر من فرسخ فقل له: الرأي لك فإذا عدى فرغبه بالمال حتى يوصلك فإذا وصلت فأول بستانٍ تراه فأنه بستان السيدة جميلة فإذا رأيته فاذهب إلى بابه ترى درجتين عاليتين عليهما فرش من الديباج وجالس عليهما رجل أحدب مثلي فاشك إليه حالك وتوسل به فعساه أن يرثي لحالك ويوصلك إلى أن تنظرها ولو نظرةً من بعيدٍ وما بيدي حيلةٌ غير هذا، وأما إذا لم يرث لحالك فقد هلكت أنا وأنت وهذا ما عندي من الرأي والأمر إلى الله تعالى فقال الغلام: استعنت بالله تعالى ما شاء الله كان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قام من عند الخياط الأحدب وذهب إلى حجرته وأخذ ما أمره به في كارةٍ لطيفةٍ ثم أنه لما أصبح جاء إلى شاطئ الدجلة وإذا هو برجلٍ ملاحٍ نائم فأيقظه وأعطاه عشرة دنانيرٍ وقال له: عدني إلى تحت البصرة فقال له: يا سيدي بشرطٍ أني لا أعدي أكثر من فرسخ وإن تجاوزته شبراً هلكت أنا وأنت فقال له: الرأي لك فأخذه وانحدر به فلما قرب من البستان قال: يا ولدي من هنا ما أقدر أن أعدي فإن تعديت هذا الحد هلكت أنا وأنت فأخرج له عشرة دنانير وقال: خذ هذه نفقة لتستعين بها على حالك فاستحى منه وقال: سلمت أمري لله تعالى.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والخمسين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام لما أعطى للملاح العشرة دنانير الأخرى أخذها وقال: سلمت أمري لله تعالى وانحدر به فلما وصلا إلى البستان نهض الغلام من فرحته ووثب من الزورق وثبة مقدار رمية رمحٍ ورمى نفسه فرجع الملاح هارباً، ثم تقدم الغلام فرأى جميع ما وصفه له الخياط الأحدب من البستان ورأى بابه مفتوحاً وفي الدهليز سريرٌ من العاج جالس عليه رجلٌ أحدب لطيف المنظر عليه ثيابٌ مذهبةٌ وفي يده دبوسٌ من فضةٍ مطليٌ بالذهب فنهض الغلام مسرعاً وانكب على يده وقبلها فقال له: من أنت ومن أين أتيت ومن أوصلك إلى هنا يا ولدي? وكان ذلك الرجل لما رأى إبراهيم بن الخصيب انبهر من جماله فقال له إبراهيم: يا عم أنا صبيٌ جاهلٌ غريبٌ.
ثم بكى فرق له وأصعده على السرير ومسح له دموعه وقال: لا بأس عليك أن كنت مديوناً قضى الله دينك وأن كنت خائفاً آمن الله خوفك، فقال: يا عم لا بي خوفٌ ولا علي دينٌ ومعي مالٌ جزيلٌ بحمد الله وعونه فقال له: يا ولدي ما حاجتك حتى خاطرت بنفسك وجمالك إلى محلٍ فيه الهلاك? فحكى له حكايته وشرح له أمره فلما سمع كلامه أطرق برأسه ساعةً إلى الأرض وقال: هل الذي دلك علي الخياط الأحدب? قال: نعم، قال: هذا أخي وهو رجلٌ مباركٌ.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 920
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 921
ثم قال: يا ولدي لولا أن محبتك نزلت في قلبي ورحمتك لهلكت أنت وأخي وبواب الخان وزوجته ثم قال: أعلم أن هذا البستان ما على وجه الأرض مثله والله يقال له بستان اللؤلؤة وما دخله أحدٌ مدة عمري إلا السلطان وأنا وصاحبته جميلة وأقمت فيه عشرين سنةً فما رأيت أحدٌ جاء إلى هذا المكان وكل أربعين يوماً تأتي في المركب إلى هنا وتصعد بين جواريها في حلة أطلسٍ تحمل أطرافها عشر جوارٍ بكلاليبٍ من الذهب إلى أن تدخل فلم أر منها شيئاً ولكن أنا ما لي إلا نفسي فأخاطر بها من أجلك فعند ذلك قبل الغلام يده وقال له: اجلس عندي حتى أدبر لك أمراً ثم أخذ بيد الغلام وأدخله البستان فلما دخل إبراهيم ذلك البستان ظن أنه الجنة ورأى الأشجار ملتفةً والنخيل باسقةً والمياه متدفقةً والأطيار تناغي بأصواتٍ مختلفة ثم ذهب به إلى قبةٍ وقال له: هذه التي تقعد فيها السيدة جميلة فتأمل تلك القبة فوجدها من أعجب المنتزهات وفيها سائر التصاوير بالذهب واللازورد وفيها أربعة أبواب يصعد إليها بخمس درج وفي وسطها بركةٌ ينزلها إليها بدرج من الذهب وتلك الدرج مرصعة بالمعادن وفي وسط البركة سلسبيل من الذهب فيه صور كبار وصغار والماء يخرج من أفواهها فإذا صفت الصور عند خروج الماء بأصواتٍ مختلفةٍ تخيل لسامعها أنه في الجنة وحول القبة ساقية قواديسها من الفضة وهي مكسوةٌ بالديباج وعلى يسار الساقية شباك من الفضة مطلٍ على برجٍ أخضرٍ فيه من سائر الطيور والوحوش والغزلان والأرانب وعلى يمينها شباكٌ مطلٌ على ميدانٍ فيه من سائر الطيور وكلها تغرد بأصوات مختلفة تدهش السامع، فلما رأى الغلام ذلك أخذه الطرب وقعد في باب البستان، وقعد البستاني بجانبه فقال له: كيف ترى بستاني? فقال له الغلام: هو جنة الدنيا، فضحك البستاني ثم قام وغاب عنه ساعةً وعاد ومعه طبقٌ فيه دجاجٌ وسمانٌ ومأكولٌ مليحٌ وحلوى من السكر فوضعه بين يدي الغلام وقال له: كل حتى تشبع قال إبراهيم: فأكلت حتى اكتفيت.
فلما رآني أكلت فرح وقال: هكذا شأن الملوك أولاد الملوك ثم قال: يا إبراهيم أي شيء معك في هذه الكارة فحللتها بين يديه فقال: أحملها معك فأنها تنفعك إذا حضرت السيدة جميلة فأنها إذا جاءت لا أقدر أن أدخل لك بما تأكله ثم قام وأخذ بيدي وأتى بي إلى مكان قبال قبة جميلة فعمل عريشة بين الأشجار وقال له: أصعد هنا فإذا جاءت فأنك تنظرها وهي لا تنظرك وهذا أكثر ما عندي من الحيلة وعلى الله الاعتماد فإذا غنت فاشرب على غنائها فإذا ذهبت فارجع من حيث جئت أن شاء الله مع السلامة. فشكره الغلام وأراد أن يقبل يده فمنعه ثم أن الغلام وضع الكارة في العريشة التي عملها له ثم قال له البستاني: يا إبراهيم تفرج في البستان وكل من أثماره فأن ميعاد حضور صاحبتك في الغد فصار إبراهيم يتنزه في البستان ويأكل من أثماره وبات ليلته عنده فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح صلى إبراهيم الصبح وإذا بالبستاني جاء وهو مصفر اللون وقال له: يا ولدي قم واصعد إلى العريشة فإن جواري السيدة جميلة قد أتين ليفرشن المكان وهي تأتي بعدهن.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والخمسين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخولي لما دخل على إبراهيم بن الخصيب في البستان قال له: قم يا ولدي اصعد على العريشة فأن الجواري قد أتين ليفرشن المكان وهي تأتي بعدهن واحذر من أن تبصق أو تمخط أو تعطس فنهلك أنا وأنت فقام الغلام وصعد إلى العريشة وذهب الخولي وهو يقول: رزقك الله السلامة يا ولدي فبينما الغلام قاعدٌ وإذا بخمس جوار أقبلن لم ير مثلهن أحد فدخلن القبة وقلعن ثيابهن وغسلن القبة ورششنها بماء الورد، وأطلقن العود والعنبر وفرشن الديباج وأقبل بعدهن خمسون جارية ومعهن آلات الطرب وجميلة بينهن من داخل خيمة حمراء من الديباج والجواري رافعات أذيال الخيمة بكلاليب من الذهب حتى دخلت القبة فلم ير منها ولا أثوابها شيئاً فقال في نفسه: والله أنه ضاع جميع تعبي ولكن لا بد من أن أصبر حتى أنظر كيف يكون الأمر.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 921
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 922
فقدمت الجواري الأكل والشرب، ثم أكلن وشربن وغسلن أيديهن، ونصبن لها كرسياً فجلست عليه ثم ضربن بآلات الملاهي جميعهن وغنين بأصوات مطربة لا مثيل لها ثم خرجت عجوز قهرمانة فصفقت ورقصت فجذبها الجواري وإذا بالستر رفع وخرجت جميلة وهي تضحك فرآها إبراهيم وعليها الحلي والحلل وعلى رأسها تاجٌ مرصعٌ باللؤلؤ فقامت الجواري وقبلن الأرض بين يديها وهي تضحك.
قال إبراهيم بن الخصيب: فلما رأيتها غبت عن وجودي واندهش عقلي وتحير فكري بما بها من جمالٍ لم يكن على وجه الأرض مثله ووقعت مغشياً علي ثم أفقت باكي العينين وأنشدت هذين البيتين: أراك فلا أرد الطرف كيلا يكون حجاب رؤيتك الجفون
ولو أني نظرت بكل لحـظٍ لما استوفت محاسنك العيون
فقالت العجوز للجواري: ليقمن منكن عشر يرقصن ويغنين فلما رآهن إبراهيم قال في نفسه: اشتهي أن ترقص السيدة جميلة فلما انتهى رقص العشر جواري فأقبلن حولها وقلن: يا سيدتنا نشتهي أن ترقصي في هذا المجلس ليتم سرورنا بذلك لأننا ما رأينا أطيب من هذا اليوم فقال إبراهيم بن الخصيب في نفسه: لا شك أن أبواب السماء قد فتحت واستجاب الله دعائي، ثم قبل الجواري أقدامها وقلن لها: والله ما رأينا صدرك مشروحاً مثل هذا اليوم فما زلن يرغبنها حتى قلعت أثوابها وصارت بقميص من نسيج الذهب مطرزاً بأنواع الجواهر وأبرزت نهوداً كأنهن الرمان وأسفرت عن وجه كالبدر ليلة تمامه فرأى إبراهيم من الحركات ما لم ير في عمره مثله وأتت في رقصها بأسلوبٍ غريبٍ وابتداعٍ عجيبٍ، حتى أنست رقص الحبيب في الكؤوس، وذكرت ميل العمائم عن الرؤوس وهي كما قال فيها الشاعر: كما اشتهت خلقت حتى إذا اعتدلت في قالب الحسن لا طول ولا قصر
كأنها خـلـت مـن مـاء لـؤلـؤٍ في كل جاريةٍ من حسنها قـمـر
وكما قال الآخر: وراقص مثل غصن البان قامته تكاد تذهب روحي من تنقلـه
لا يستقر له في رقصته قـدم كلفا نار قلبي تحت أرجـلـه
قال إبراهيم: فبينما أنظر إليها إذ لاحت منها التفاتة إلي فرأتني فلما نظرتني تغير وجهها فقالت لجواريها: غنوا أنتم حتى أجيء إليكن ثم عمدت إلى سكين قدر نصف ذراع وأخذتها وأتت نحوي ثم قالت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فلما قربت مني غبت عن الوجود فلما رأتني ووقع وجهها في وجهي وقعت السكين من يدها وقالت: سبحان مقلب القلوب ثم قالت لي: يا غلام طب نفساً وقر عيناً ولك الأمان مما تخاف? فصرت أبكي وهي تمسح دموعي بيدها وقالت: يا غلام أخبرني من أنت وما جاء بك إلى هذا المكان? فقلبت الأرض بين يديها ولزمت ذيلها فقالت: لا بأس عليك فو الله ما ملأت عيني من ذكر غيرك فقل من أنت? قال: إبراهيم: فحدثتها بحديثي من أوله إلى أخره فتعجبت من ذلك وقالت لي: يا سيدي أناشدك هل أنت إبراهيم بن الخصيب? قلت: نعم فانكبت علي وقالت: يا سيدي أنت الذي زهدتني في الرجال لأنني لما سمعت أنه وجد في مصر صبي لم يكن على وجه الأرض أجمل منه واسمه إبراهيم بن الخصيب هويتك بالوصف وتعلق قلبي بحبك لما بلغني عنك من الجمال الباهر وصرت فيك كما قال الشاعر: أذني لقد سبقت في عشقه بصري والأذن تعشق قبل العين أحيانـاً
فالحمد لله الذي أراني وجهك والله لو كان أحد غيرك لكنت صلبت البستاني وبواب الخان والخياط ومن يلوذ بهم ثم قالت لي: كيف احتال على شيءٍ تأكله من غير إطلاع الجواري? فقلت له: معي ما نأكل وما نشرب ثم حللت الكارة بين يديها فأخذت دجاجة وصارت تلقمني وألقمها فلما رأيت ذلك منها توهمت أنه منا. ثم قدمت الشراب فشربنا كل ذلك وهي عندي والجواري يغنين وما زلنا كذلك من الصبح إلى الظهر ثم قامت وقالت قم الآن هيء لك مركباً وانتظرني في المحل الفلاني حتى أجيء إليك فما بقي لي صبرٌ على فراقك فقلت: يا سيدتي أن معي مركباً وهي ملكي والملاحون في إجارتي وهم في انتظاري فقالت: هذا هو المراد ثم مضت إلى الجواري.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والخمسين بعد التسعمائة
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 922
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 923
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة جميلة لما مضت إلى الجواري قالت لهن: قمن بنا لنروح إلى قصرنا فقلن لها: كيف نقوم في هذه الساعة وعادتنا أننا نقعد ثلاثة أيامٍ? فقالت: إني أجد في نفسي ثقلاً عظيماً كأني مريضةٌ وأخاف أن يثقل علي ذلك فقلن لها سمعاً وطاعةً فلبسن ثيابهن ثم توجهن إلى الشاطئ ونزلن في الزورق وإذا بالبستاني قد أقبل على إبراهيم وما عنده علمٌ بالذي جرى له فقال له: يا إبراهيم ما لك حظٌ في التلذذ برؤيتها فأن من عادتها أن تقيم هنا ثلاثة أيامٍ وأنا أخاف أن تكون رأتك فقال إبراهيم: ما رأتني ولا رأيتها ولا خرجت من القبة قال: صدقت يا ولدي فأنها لو رأتك لكنا هلكنا ولكن أقعد عندي حتى تأتي لي الأسبوع الثاني وتراها وتشبع من النظر إليها فقال إبراهيم: أن معي مالاً وأخاف عليه وورائي رجالٌ فأخاف أن يستغيبوني فقال: يا ولدي أنه يعز علي فراقك ثم عانقه وودعه ثم أن إبراهيم توجه إلى الخان الذي كان نازلاً فيه وقابل بواب الخان وأخذ ماله فقال بواب الخان: خير إن شاء الله فقال له إبراهيم: إني ما وجدت إلى حاجتي سبيلاً وأريد أن أرجع إلى أهلي فبكى بواب الخان وودعه وحمل أمتعته وأوصله إلى المركب وبعد ذلك توجه إلى المحل الذي قالت له عليه وانتظرها فيه.
فلما جن الليل وإذا قد أقبلت عليه وهي في زي رجلٍ شجاعٍ بلحيةٍ مستديرةٍ ووسطٍ مشدودٍ بمنطقةٍ وفي إحدى يديها قوس ونشاب وفي الأخرى سيفٌ مجردٌ وقالت له: هل أنت ابن الخصيب صاحب مصر? فقال له إبراهيم: هو أنا فقالت له: وأي علق أنت حتى جئت تفسد بنات الملوك قم كلم السلطان قال إبراهيم: فوقعت مغشياً علي وأما الملاحون فإنهم ماتوا في جلدهم من الخوف فلما رأت ما حل بي خلعت تلك اللحية ورمت السيف وحلت المنطقة فرأيتها هي السيدة جميلة فقلت لها: والله إنك قطعت قلبي ثم قلت للملاحين: اسرعوا في سير المركب فحلوا الشراع وأسرعوا في السير فما كان إلا أيامٌ قلائل حتى وصلنا إلى بغداد وإذا بمراكب واقفةٍ على جانب الشط فلما رآنا الملاحون الذين معنا صاروا يقولون: يا فلان ويا فلان نهنئكم بالسلامة دفعوا مراكبهم على مركبنا فنظرنا فإذا فيها أبو القاسم الصندلاني فلما رآنا قال: إن هذا هو مطلوبي امضوا في وداعة الله وأنا أريد التوجه إلى غرضٍ وكان بين يديه شمعةً ثم قال لي: الحمد لله على السلامة هل قضيت حاجتك? قلت: نعم فقرب الشمعة منا فلما رأته جميلة تغير حالها واصفر لونها ولما رآها الصندلاني قال: اذهبوا في أمان الله أنا رائحٌ إلى البصرة في مصلحة للسلطان ولكن الهدية لمن حضر.
ثم أحضر علبةً من الحلويات ورماها في مركبنا وكان فيها البنج فقال إبراهيم: يا قرة عيني كلي من هذا فبكت وقالت: يا إبراهيم أتدري من هذا? قلت: نعم هذا فلان قالت: أنه ابن عمي وكان سابقاً قد حضر ليخطبني من والدي فما رضيت به وهو متوجه إلى البصرة فربما عرف أبي بنا فقلت: يا سيدتي هو لا يصل إلى البصرة حتى نصل نحن إلى مصر ولم يعلما بما هو مخبوء لهما في الغيب فأكلت شيئاً من الحلاوة فما نزلت جوفي حتى ضربت الأرض برأسي فلما كان وقت السحر عطست فخرج البنج من منخاري وفتحت عيني فرأيت نفسي عرياناً مرمياً في الخراب فلطمت على وجهي وقلت في نفسي: إن هذه الحيلة عملها في الصندلاني فسرت لا أدري أين اذهب وما علي سوى سروال.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 923
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 924
فقمت وتمشيت قليلاً وإذا بالوالي أقبل علي ومعه جماعةً بسيوفٍ ومطارقٍ فخفت فرأيت حماماً خرباً فتواريت فيه فعثرت رجلي في شيءٍ فوضعت يدي عليه فتلوثت بالدم فمسحتها في سروال ولم أعلم ما هو ثم مددت يدي إليه ثانياً فجاءت على قتيلٍ وطلعت رأسه في يدي فرميتها وقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم دخلت زاوية من زوايا الحمام وإذا بالوالي واقفٌ على باب الحمام وقال: ادخلوا هذا المكان وفتشوه فدخل منهم عشرةٌ بالمشاعل فمن خوفي دخلت وراء حائطٍ فتأملت تلك المقتول فرأيتها صبية ووجهها كالبدر ورأسها في ناحيةٍ وجثتها في ناحيةٍ وعليها ثياب ثمينة فلما رأيتها وقعت الرجفة في قلبي ودخل الوالي وقال: فتشوا واجهات الحمام فدخلوا الموضع الذي أنا فيه فنظرني رجلٌ منهم فجاءني وبيده سكين طولها نصف ذراعٍ فلما قرب مني قال: سبحان الله خالق هذا الوجه الحسن يا غلام من أين أنت? ثم أخذ بيدي وقال: يا غلام لأي شيءٍ قتلت هذه المقتولة? فقلت: والله ما قتلتها وما أعرف من قتلها وما دخلت هذا المكان إلا فزعاً منكم وأخبرته بقصتي وقلت له: بالله عليك لا تظلمني فأني مشغولٌ بنفسي فأخذني وقدمني إلى الوالي فلما رأى على يدي أثر الدم قال: هذا لا يحتاج إلى بينة فاضربوا عنقه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والخمسين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ابن الخصيب قال: فلما قدموني للوالي ورأى على يدي أثر الدم قال: هذا ما يحتاج إلى بينة فاضربوا عنقه فلما سمعت هذا الكلام بكاءً شديداً وجرت مني دموع العين وأنشدت هذين البيتين: مشيناها خطى كتبت علـينـا ومن كتبت عليه خطى مشاها
ومن كانت منـيتـه بـأرضٍ فليس يموت في أرضٍ سواها
ثم شهقت شقهةً فوقعت مغشياً علي فرق لي قلب الجلاد وقال: والله هذا وجه من لا يقتل فقال الوالي: اضربوا عنقه فأجلسوني في نطع الدم وشدوا علي عيني غطاء وأخذ السياف سيفه واستأذن الوالي وأراد أن يضرب عنقي فصحت: وأغربتاه وإذا الخيل قد أقبلت وقائلٌ يقول: دعوه أمنع يدك يا سياف، وكان لذلك سبباً عجيباً وأمراً غريباً وهو أن الخصيب صاحب مصر كان قد أرسل حاجبه إلى الخليفة هارون الرشيد ومعه هدايا وتحف وصحبته كتاب يذكر له فيه: أن ولدي قد فقد منذ سنة وقد سمعت أنه ببغداد، والمقصود من إنعام خليفة الله أن يفحص عن خبره ويجتهد في طلبه ويرسل إلي مع الحاجب. فلما قرأ الخليفة الكتاب أمر الوالي أن يبحث عن حقيقة خبره فلم يزل الوالي والخليفة يسألان عنه حتى قيل له أنه بالبصرة وأمره أن يسافر إلى البصرة ويأخذ معه جماعةً من أتباع الوزير في حرص الحاجب فلما رأى الوالي الحاجب وعرفه ترجل إليه فقال له الحاجب: ما هذا الغلام وما شأنه? فأخبره بالخبر الحاجب والحال أنه لم يعرف أنه ابن السلطان إن وجه هذا الغلام وجه من لا يقتل وأمره بحل وثاقه فحله فقال: قدمه إلي، فقدمه إليه وكأن ذهب جماله من شدة الأهوال فقال له الحاجب: أخبرني بقضيتك يا غلام وما شأن هذه المقتولة معك?
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 924
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 925
فلما نظر إبراهيم إلى الحاجب عرفه فقال له: ويلك أما تعرفني? أما أنا إبراهيم ابن سيدك فلعلك جئت في طلبي فأمعن الحاجب فيه النظر فعرفه غاية المعرفة فلما عرفه انكب على أقدامه فلما رأى الوالي ما حصل من الحاجب اصفر لونه فقال له الحاجب: ويلك يا جبار هل كان مرادك أن تقتل ابن سيدي الخصيب صاحب مصر? فقبل الوالي ذيل الحاجب وقال له: يا مولاي من أين أعرفه وإنما رأيناه على هذه الصفة ورأينا الضبية مقتولة بجبانة فقال: ويلك أنك لا تصلح للولاية هذا غلام له من العمر خمسة عشر عاماً وما قتل عصفوراً فكيف يقتل قتيلاً? هلا أمهلته وسألته عن حاله، ثم قال الحاجب والوالي: فتشوا على قاتل الصبية فدخلوا الحمام ثانياً فرأوا قاتلها فأخذوه وأتوا به الوالي فأرسله دار الخلافة وأعلم الخليفة بما جرى فأمر الرشيد بقتل قاتل الصبية ثم أمر بإحضار ابن الخصيب فلما تمثل بين يديه تبسم الرشيد في وجهه وقال له: أخبرني بقضيتك وما جرى لك? فحدثه بحديثه من أوله إلى أخره فعظم ذلك عنده فنادى مسرور السياف وقال: اذهب في هذه الساعة وأهجم على دار أبي القاسم الصندلاني وائتني به وبالصبية فمضى من ساعته وهجم على داره فرأى الصبية في وثاقٍ من شعرها وهي في حالة التلف فحلها مسرور وأتى بها وبالصندلاني فلما رآها الرشيد تعجب من جمالها ثم التفت إلى الصندلاني وقال: خذوه واقطعوا يديه اللتين ضرب بهما هذه الصبية واصلبوه وسلموا أمواله وأملاكه إلى إبراهيم ففعلوا ذلك فبينما هم كذلك وإذا بأبي الليث عامل البصرة والد السيدة جميلة قد أقبل عليهم يستغيث بالخليفة من إبراهيم بن الخصيب صاحب مصر ويشكوا إليه أنه أخذ ابنته فقال له الرشيد أنه كان سبباً في خلاصها من العذاب والقتل وأمر بإحضار ابن الخصيب فلما حضر قال أبي الليث: ألا ترضى أن يكون هذا الغلام ابن السلطان مصر بعلاً لابنتك فقال سمعاً وطاعةً لله ولك يا أمير المؤمنين فدعا الخليفة بالقاضي والشهود وزوج الصبية بإبراهيم ابن الخصيب ووهب له جميع أموال الصندلاني وجهزه إلى بلاده وعاش معها في أتم سرور وفي حبور إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات فسبحان الحي الذي لا يموت.
حكاية أبي الحسن الخراساني الصيرفي مع شجرة الدر
ومما يحكى أيضاً أيها الملك السعيد أن المعتضد بالله كان عالي الهمة شريف النفس وكان له ببغداد ستمائة وزير وما كان يخفى عليه من أمور الناس شيء، فخرج يوماً هو وابن خلدون يتفرجان على الرعايا ويسمعان ما يتجدد من أخبار الناس فحمي عليهما الحر والهجير وقد انتهيا إلى زقاقٍ لطيفٍ في شارعٍ فدخلا ذلك الزقاق فرأيا في صدر الزقاق داراً حسنةً شامخة البناء تفصح عن صاحبها بلسان الثناء فقعدا على الباب يستريحان فخرج من تلك الدار خادمان وجه كل منهما كالقمر ليلة أربعة عشر فقال أحدهما لصاحبه: لو استأذن اليوم ضيف لأن سيدي لا يأكل إلا مع الضيفان، وقد صرنا إلى هذا الوقت ولم أر أحداً.
فتعجب الخليفة من كلامهما وقال: إن هذا دليلٌ على كرم صاحب الدار ولا بد أن ندخل داره وننظر مرؤوته ويكون ذلك سبباً في نعمة تصل إليه منه. ثم قال للخادم: استأذن سيدك في قدوم جماعة أغراب، وكان الخليفة في ذلك الزمان إذا أراد الفرجة على الرعية تنكر في زي التجار فدخل الخادم على سيده وأخبره ففرح وقام وذهب إليهما بنفسه وإذا به جميل الوجه حسن الصورة وعليه قميص نيسابوري ورداءٍ مذهب وهو مضمخ بالطيب وفي يده خاتمٌ من الياقوت، فلما رآهما قال: أهلاً وسهلاً بالسادة المنعمين علينا غاية الإنعام بقدومهما، فلما دخلا تلك الدار رأياها تنسي الأهل الأوطان كأنها قطعة من الجنان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والخمسين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة لما دخل الدار هو ومن معه رأياها تنسي الأهل والأوطان كأنها قطعة من الجنان ومن داخلها بستان فيه من سائر الأشجار وهي تدهش الأبصار وأماكنها مفروشةً بنفائس الفرش فجلسوا وجلس المعتضد يتأمل في الدار والفرش، فقال ابن حمدان: فنظرت إلى الخليفة فرأيت وجهه قد تغير وكنت أعرف من وجهه حال الرضا والغضب، فلما رأيته قلت في نفسي، يا ترى ما باله حتى غضب?
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 925
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 926
ثم جاؤوا بطشت من الذهب فغسلنا أيدينا ثم جاؤوا بسفرةٍ من الحرير وعليها مائدة من الخيزران فلما انكشفت الأغطية عن الأواني رأينا طعاماً كزهر الربيع في عز الأوان صنوان وغير صنوان. ثم قال صاحب الدار: بسم الله يا سادتنا والله أن الجوع قد أضناني فأنعموا علي بالأكل من هذا الطعام كما هو أخلاق الكرام وصاحب الدار يفسخ الدجاج ويضعه بين أيدينا ويضحك وينشد الأشعار ويورد الأخبار ويتكلم بلطيف ما يليق بالمجلس.
وقال ابن حمدان: فأكلنا وشربنا ثم نقلنا إلى مجلسٍ آخر يدهش الناظرين تفوح منه الروائح الزكية، ثم قدم لنا سفرة فاكهةٍ جنيةٍ وحلوياتٍ شهيةٍ فزادت أفراحنا وزالت أتراحنا. قال ابن حمدان: ولم يزل الخليفة في عبوس ولم يبتسم لما فيه فرح النفوس مع أن عادته أنه يحب اللهو والطرب ودفع الهموم وأنا أعرف أنه غير حسودٍ ولا ظلومٍ فقلت في نفسي يا ترى ما سبب عبوسه وعدم زوال بؤسه? ثم جاؤوا بطبق الشراب ومجمع شمل الأحباب وأحضروا الشراب المروق وبواطي الذهب والبخور والفضة وضرب صاحب الدار على باب مقصورةٍ بقضيبٍ من الخيزران وإذا بباب المقصورة قد فتح وخرج منه ثلاث جوار نهد أبكارٍ وجوههن كالشمس في رابعة النهار وتلك الجواري ما بين عوادةٍ وجنكيةٍ ورقاصةٍ، ثم قدم لنا النقل والفواكه.
قال ابن حمدان: فضرب بيننا وبين الثلاث جوارٍ ستارةً من الديباج وشراريبها من الأبريسيم وحلقاتها من الذهب فلم يلتفت الخليفة إلى هذا جميعه وصاحب الدار لم يعلم من هو الذي عنده، فقال الخليفة لصاحب الدار: أشريفٌ أنت? لا يا سيدي إنما أنا رجلٌ من أولاد التجار أعرف بين الناس بأبي الحسن علي ابن أحمد الخراساني، فقال له الخليفة: أتعرفني يا رجل? قال له: والله يا سيدي ليس لي معرفةٌ بأحدٍ من جنابكم الكريم، فقال له ابن حمدان: يا رجل هذا أمير المؤمنين المعتضد بالله حفيد المتوكل على الله، فقام الرجل وقبل الأرض بين يدي الخليفة وهو يرتعد من خوفه، وقال: يا أمير المؤمنين بحق آبائك الطاهرين أن كنت رأيت مني تقصيراً أو قلة أدبٍ بحضرتك أن تعفو عني.
فقال الخليفة: أما ما صنعته معنا من الإكرام فلا مزيد عليه، وأما ما أنكرته عليك هنا فإن صدقتني حديثه واستقر ذلك بعقلي نجوت مني وأن لم تعرفني حقيقته أخذتك بحجةٍ واضحةٍ وعذبتك عذابا لم أعذب أحداً مثله. قال: معاذ الله أن أحدث بالمحال، وما الذي أنكرته على أمير المؤمنين? فقال الخليفة: أنا من حين دخلت الدار وأنا أنظر إلى حسنها وأوانيها وفراشها وزينتها، حتى ثيابك ولماذا عليها اسم جدي المتوكل على الله? قال: نعم أعلم يا أمير المؤمنين أيدك الله الحق شعارك والصدق وداءك ولا قدرة لأحدٍ على أن يتكلم بغير الصدق في حضرتك، فأمره بالجلوس فجلس فقال له: حدثني فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أيدك الله بنصره وحقك بلطائف أمره أنه لم يكن ببغداد أحداً يسر مني ولا من أبي ولكن أخل لي ذهنك وسمعك وبصرك حتى أحدثك بسبب ما أنكرته علي، فقال له الخليفة: قل حديثك فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أنه كان أبي يسوق الصيارف والعطارين والبزازين وكان له في كل سوقٍ حانوت ووكيل وبضائع من سائر الأصناف وكان له حجرةً من داخل الدكان التي بسوق الصيارف لأجل الخلوة فيها وجعل الدكان لأجل البيع والشراء وكان ماله يكثر عن العد ويزيد عن الحد ولم يكن له ولد غيري وكان محباً لي وشفوقاً علي فلما حضرته الوفاة دعاني وأوصاني بوالدتي وبتقوى الله تعالى ثم مات رحمه الله وأبقى أمير المؤمنين فاشتغلت باللذات وأكلمت وشربت ثم اتخذت الأصحاب والأصدقاء وكانت أمي تنهاني عن ذلك وتلومني عليه فلم أسمع كلامها حتى ذهب المال جميعه وبعت العقار ولم يبق لي شيءٌ غير الدار التي أنا فيها وكانت داراً حسنةً يا أمير المؤمنين.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 926
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 927
فقلت لأمي: أريد أن أبيع الدار فقالت: يا ولدي أن بعتها تفتضح ولا تعرف مكاناً تأوي إليه فقلت: هي تساوي خمسة الألف دينارٍ فأشتري من جملة ثمنها داراً بألف دينارٍ ثم أتجر بالباقي فقالت: أتبيعني هذه الدار بهذا المقدار? قلت: نعم فجاءت إلى طابقٍ وفتحته وأخرجت منه إناءً من الصيني فيه خمسةً الآلف دينارٍ فخيل إلي أن الدار كلها ذهب فقالت لي: يا ولدي لا تظن أن هذا المال مال أبيك والله يا ولدي أنه من مال أبي وكنت أدخرته لوقت الحاجة إليه فأني كنت في زمن أبيك غنية عن الاحتياج إلى هذا المال فاتخذت المال منها يا أمير المؤمنين وعدت لما كنت عليه من المأكل والمشرب والصحبة حتى نفذت الخمسة الألف دينارٍ ولم أقبل من أمي كلاماً ولا نصيحةً ثم قلت لها: مرادي أن أبيع الدار فقالت: يا ولدي قد نهيتك عن بيعها لعلمي أنك محتاج إليها فكيف تريد بيعها ثانياً? فقلت لها: لا تطيلي علي الكلام فلا بد من بيعها فقالت: بعني إياها بخمسة عشر ألف دينارٍ بشرط أن أتولى شؤونك بنفسي فبعتها لها بذلك المبلغ على أن تتولى أموري بنفسها فطلبت وكلاء أبي وأعطت كل واحدٍ منهم ألف دينار ووضعت المال تحت يدها والأخذ والعطاء معها وأعطتني بعضاً من المال لأتجر فيه وقالت لي: أقعد أنت في دكان أبيك فعملت ما قالت أمي يا أمير المؤمنين وجئت إلى الحجرة التي في سوق الصيارف وجاء أصحابي وصاروا يشترون مني وأبيع لهم وطاب لي الربح وكثر مالي.
فلما رأتني أمي على هذه الحالة الحسنة أظهرت لي ما كان مدخراً عندها من جواهرٍ ومعادنٍ ولؤلؤٍ وذهبٍ ثم أعادت أملاكي التي كان وقع فيها التفريط وكثر مالي كما كان ومكثت على هذه الحال مدة وجاء وكلاء أبي فأعطيتهم البضائع ثم بنيت حجرةً ثانيةً من داخل الدكان.
فبينما أنا قاعدٌ فيها يا أمير المؤمنين وإذا بجاريةٍ قد جاءت إلي لم تر العيون أجمل منها منظراً فقالت: هذه حجرة أبي الحسن علي بن أحمد الخراساني? قلت لها: نعم، قالت: أين هو? فقلت: هو أنا، ولكن اندهش عقلي من فرط جمالها يا أمير المؤمنين، ثم أنها قعدت وقالت لي: قل للغلام يزن لي ثلاثمائة دينار فأمرته أن يزن لها المقدار فوزنه لها فأخذته وانصرفت وأنا ذاهل العقل فقال لي غلامي: أتعرفها? قلت: لا والله قال: فلم قلت لي زن لها? فقلت: والله أني لم أدر ما أقول مما بهرني من حسنها وجمالها.
فقام الغلام وتبعها من غير علمي ثم رجع وهو يبكي وبوجهه أثر ضربةٍ، فقلت له: ما بالك? فقال: أني تبعت الجارية لأنظر أين تذهب فلما أحست بي رجعت وضربتني هذه الضربة فكادت أن تتلف عيني، ثم مكثت شهراً لم أرها ولم تأت وأنا ذاهل العقل في هواها يا أمير المؤمنين، فلما كان آخر الشهر وإذا بها جاءت وسلمت على فكدت أن أطير فرحاً فسألتني عن خبري وقالت: لعلك قلت في نفسك ما شأن هذه المحتالة كيف أخذت مالي وانصرفت فقلت: والله يا سيدتي أن مالي وروحي ملكٌ لك، فأسفرت عن وجهها وجلست لتستريح والحلي والحلل تلعب على وجهها وصدرها ثم قالت: زن لي ثلاثمائة دينار فقلت سمعاً وطاعةً.
ثم وزنت لها الدنانير فأخذتها وانصرفت فقلت للغلام: أتبعها فتبعها ثم عاد لي وهو مبهوتٌ ومضت، فبينما أنا جالسٌ في بعض الأيام وإذا بها قد جاءت إلي وتحدثت ساعةً ثم قالت لي: زن لي خمسمائة دينارٍ فأني قد أحتجت إليها، فأردت أن أقول لها على أي شيءٍ أعطيك مالي فمنعني فرط الغرام من الكلام وأنا يا أمير المؤمنين كلما رأيتها ترتعد مفاصلي ويصفر لوني وأنسى ما أريد أن أقول وأصير أقول كما قال الشاعر: كما هو إلا أن أراها فجأة فأبهت حتى لا أكاد أجيب
ثم وزنت لها الخمسمائة دينارٍ فأخذتها وانصرفت فقمت وتبعتها بنفسي إلى أن وصلت إلى سوق الجواهر فوقفت عند إنسانٍ فأخذت منه عقداً والتفتت فرأتني فقالت: زن لي خمسمائة دينار، فلما نظرني صاحب العقد قام إلي وعظمني فقلت له: أعطها العقد وثمنه علي فقال: سمعاً وطاعةً فأخذت العقد وانصرفت.
سفرت عنوأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الستين بعد التسعمائة
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 927
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 928
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا الحسن الخراساني قال: فقلت له أعطها العقد وثمنه علي فأخذت العقد وانصرفت فتبعتها حتى جاءت إلى الدجلة ونزلت في مركبٍ فأومأت إلى الأرض لأقبلها بين يديها فذهبت وضحكت ومكثت واقفاً انظرها إلى أن دخلت قصراً فتأملتها فإذا هو قصر الخليفة المتوكل فرجعت يا أمير المؤمنين وقد حل بقلبي كل همٍ في الدنيا وكانت قد أخذت مني ثلاثة آلاف دينارٍ فقلت في نفسي: قد أخذت مالي وسلبت عقلي وربما تلفت نفسي في هواها.
ثم رجعت إلى داري وقد حدثت أمي بجميع ما جرى لي فقالت لي: يا ولدي إياك أن تتعرض لها بعد ذلك فتهلك، فلما رحت إلى دكاني جاءني وكيلي الذي بسوق العطارين وكان شيخاً كبيراً فقال لي: يا سيدي ما لي أراك متغير الحال يظهر عليك أثر الكآبة فحدثني بخبرك? فحدثته بجميع ما جرى لي معها فقال لي: يا ولدي أن هذه من جواري قصر أمير المؤمنين وهي محظية الخليفة فاحتسب المال لله تعالى ولا تشغل نفسك بها وإذا جاءتك فاحذر أن تتعرض لها وأعلمني بذلك حتى أدبر لك أمراً لئلا يحصل لك ثم تركني وذهب وفي صدري لهيب النار.
فلما كان أخر الشهر إذ بها جاءت إلي ففرحت بها غاية الفرح، فقالت لي: ما حملك على أن تتبعني? فقلت لها: حملني على ذلك فرط الوجد الذي بقلبي وبكيت بين يديها فبكت رحمةً وقالت: والله ما في قلبك شيءٌ من الغرام إلا وفي قلبي أكثر منه ولكن كيف أعمل، والله ما لي من سبيل غير أني أراك في كل شهرٍ مرةٍ.
ثم دفعت إلي ورقةً وقالت: خذ هذه إلى فلان الفلاني فأنه وكيلي وأقبض منه ما فيها فقلت: ليس لي حاجة بمال ومالي وروحي فداك، فقالت: سوف أدبر لك أمراً يكون فيه وصولك إلي وأن كان فيه تعبٌ ثم ودعتي وانصرفت فجئت إلى الشيخ وأخبرته بما جرى فجاء معي إلى دار المتوكل فرأيتها هي والمكان الذي دخلت فيه الجارية فصار الشيخ متحيراً في حيلةٍ يفعلها فرأى خياطاً قبل الشباك المطل على الشاطئ وعنده صناعٌ فقال: بهذا تنال مرادك ولكن أفتق جيبك وتقدم إليه وقل له أن يخيطه فإذا خاطه فادفع له عشرة دنانيرٍ فقلت: سمعاً وطاعةً، ثم توجهت إلى الخياط وأخذت معي شقتين من الديباج الرومي وقلت له: فصل لي هاتين أربعة ملابسٍ اثنين فرجية واثنين غير فرجية.
فلما فرغ الخياط من تفصيل الملابس وخياطتها أعطيته أجريتها زيادة عن العادة بكثيرٍ، ثم مد يده إلى تلك الملابس فقلت: خذها لك ولمن حضر عندك، وصرت أقعد عنده وأطيل القعود معه ثم فصلت عنده غيرها وقلت له: علقه على وجه الدكان لمن ينظره فيشتريه ففعل، وصار كل من خرج من قصر الخليفة وأعجبه شيءٌ من الملابس وهبته له حتى البواب، فقال الخياط: يا مأمن الأيام أريد يا ولدي أن تصدقني حديثك لأنك فصلت عندي مائة حلةٍ ثمينةٍ ولك حلةٌ تساوي جملةً من المال ووهبت غالبها للناس وهذا ما هو فعل تاجرٍ لأن التاجر يحاسب على الدرهم وما مقدار رأس مالك حتى تعطي هذه العطايا وما يكون مكسبك في كل يومٍ فأخبرني خبراً صحيحاً حتى أعاونك على مرادك ثم قال: أناشدك الله أما أنت عاشقٌ? قلت: نعم، فقال: لمن? قلت: لجاريةٍ من جواري قصر الخليفة فقال: قبحهن الله كم يفتن الناس ثم قال: هل تعرف اسمها? قلت: لا فقال: صفها لي، فوصفتها له فقال: ويلاه هذه عوادة الخليفة المتوكل والمحظية عنده لكن لها مملوك فأجعل بينك وبينه صداقةً لعله يكون سبباً في اتصالك بها فبينما نحن في الحديث وإذا بالملوك مقبلٌ من الخليفة وهو كأنه القمر في ليلة أربعة عشر وبين يدي الثياب التي خاطها لي الخياط وكانت من الديباج من سائر الألوان فصار ينظر إليها ويتأمل ثم أقبل علي فقمت وسلمت عليه فقال: من أنت? فقلت: رجلٌ من التجار، قال: أتبيع هذه الثياب? قلت: نعم فأخذ منها خمسةٌ وقال: بكم الخمسة? فقلت: هي هدية مني إليك عقد صحبةٍ بيني وبينك ففرح بها ثم جئت إلى بيتي وأخذت له ملبوساً مرصعاً بالجواهر واليواقيت قيمته ثلاثة ألاف دينارٍ وتوجهت به إليه فقبل مني ثم أخذني ودخل بي حجرةً في داخل القصر وقال:
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 928
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 929
ما اسمك بين التجار? فقلت له: رجلاً منهم فقال: قدر ابني أمرك فقلت: لماذا? قال: أنك أهديت لي شيئاً كثيراً ملكت قلبي به وقد صح عندي أنك أبو الحسن الخراساني أكثر الصيرفي، فبكيت يا أمير المؤمنين فقال لي: لم تبكي? فو الله التي تبكي من أجلها عندها من الغرام بك أكثر مما عندك من الغرام بها وأعظم وقد شاع عند جميع جواري القصر خبرها معك. ثم قال لي: وأي شيءٍ تريد? فقلت: أريد أنك تساعدني في بليتي فوعدني إلى الغد، فمضيت إلى داري، فلما أصبحت وتوجهت إليه ودخلت حجرته قال: أعلم أنها لما فرغت من خدمتها عند الخليفة بالأمس ودخلت حجرتها حدثتها بحديثك جميعه وقد عزمت على الاجتماع بك فاقعد عندي إلى آخر النهار فقعدت عنده.
فلما جن الليل إذا بالمملوك أتى ومعه قميصٌ منسوجٌ من الذهب وحلةٌ من حلل الخليفة فألبسني إياها وبخرني فصرت أشبه بالخليفة ثم أخذني إلى محلٍ فيه الحجر صفين من الجانبين وقال: هذه حجرة الجواري الخواص فإذا مررت عليها فضع على كل بابٍ من الأبواب حبةً من الفول لأنه من عادة الخليفة أن يفعل هكذا في كل ليلةٍ.
وفي الليلة الواحدة والستين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن المملوك لما قال لأبي الحسن: فإذا مررت عليها فضع على كل بابٍ من الأبواب حبةً من الفول لأن من عادة الخليفة أن يفعل هكذا إلى أن تأتي إلى الدرب الثاني الذي على يدك اليمنى فترى حجرةً عتبة بابها من المرمر فإذا قدمت إليها فمسها بيدك أن شئت فعد الأبواب فهي كذا وكذا باباً فأدخل الباب الذي علامته كذا وكذا فتراك صاحبتك وتأخذك عندها، وأما خروجك فإن الله يهون علي فيه ولو أخرجك في صندوقٍ.
ثم تركني ورجع وصرت أمشي وأعد الأبواب واضع على كل بابٍ حبة فولٍ: فلما صرت في وسط الحجر سمعت ضجةً عظيمةً ورأيت ضوء شموع وأقبل ذلك الضوء نحوي حتى قرب مني فتأملته فإذا هو الخليفة وحوله الجواري ومعهن الشموع فسمعت واحدةً منهن تقول لصاحبتها: يا أختي هل نحن لنا خليفتان? على أن الخليفة قد جاز حجرتي وشممت رائحة العطر والطيب ووضع حبة الفول على حجرتي كعادته، وفي هذه الساعة أرى ضوء شموع للخليفة وها هو مقبلٌ. فقالت: أن هذا الأمر عجيب لأن التزيي بزي الخليفة لا يجسر عليه أحدٌ، ثم قرب الضوء مني فارتعدت أعضائي وإذا بخادمٍ يصيح على الجواري ويقول: ههنا، فانعطفوا إلى حجرةٍ من الحجر ودخلوا ثم خرجوا ومشوا حتى وصلوا إلى بيت صاحبتي فسمعت الخليفة يقول: حجرة من هذه? فقالوا: هذه حجرة شجرة الدر فقال: نادوها فنادوها فخرجت وقبلت أقدام الخليفة فقال لها: أتشربين الليلة? فقالت: أن لم يكن لحضرتك والنظر إلى طلعتك فلا أشرب فأنني لا أميل إلى الشراب في هذه الليلة، فقال للخازن: ادفع لها العقد الفلاني.
ثم أمر بالدخول إلى حجرتها فدخلت بين الشموع وإذا بجاريتها أمامهم وضوء وجهها غالبٌ على ضوء الشمعة التي بيدها فقربت مني وقالت: من هذا? ثم قبضت علي وأخذتني إلى حجرةٍ من الحجر وقالت لي: من أنت? فقلبت الأرض بين يديها وقالت لها: أناشدك الله يا مولاتي أن تحقني دمي وترحميني وتتقربي إلى الله بانقاذ مهجتي وبكيت فزعاً من الموت، فقالت: لا ريب أنك لصٌ? فقلت: لا والله ما أنا لصٌ فهل ترين علي أثر اللصوص? فقالت: أصدقني خبرك وأنا أجعلك في أمانٍ، فقلت: أنا جاهلٌ أحمقٌ قد حملتني الصبابة وجهلي على ما ترين مني حتى وقعت في هذه الورطة، فقالت: قف هنا أجيء إليك.
ثم خرجت وجاءتني بثياب جاريةٍ من جواريها وألبستني تلك الثياب في تلك الزاوية وقالت: تعال خلفي فمشيت خلفها حتى وصلت إلى حجرتها وقالت: ادخل هنا فدخلت حجرتها فجاءت بي إلى سريرٍ وعليه فرشٌ عظيمٌ وقالت: أجلس لا بأس عليك أما أنت أبو الحسن الخراساني? قلت: بلى قالت: قد حقن الله دمك أن كنت صادقاً ولم تكن لصاً فأنك تهلك لا سيما وأنت في زي الخليفة ولباسه وبخوره، وأما أن كنت أبا الحسن الخراساني الصيرفي فأنك قد أمنت ولا بأس عليك فأنك صاحب شجرة الدر التي هي أختي فأنها لا تقطع خبرها عنك أبداً وتخبرنا كيف أخذت منك المال ولم تتغير وكيف جئت وراءها إلى الشاطئ وأومأت لها إلى الأرض تعظيماً وفي قلبها منك الحب أكثر مما في قلبك منها، ولكن كيف وصلت إلى ههنا بأمرها أم بغير أمرها بل خاطرت بنفسك وما مرادك من الاجتماع?
163
ثم قال: أدخل، فدخل، فقال عبد الله البحري: يا ابنتي وإذا بابنته أقبلت عليه ولها وجهٌ مدورٌ مثل القمر ولها شعرٌ طويلٌ وردفٌ ثقيلٌ وطرفٌ كحيلٌ وخصرٌ نحيلٌ لكنها عريانةٌ ولها ذنبٌ فلما رأت عبد الله البري مع أبيها قالت له: يا أبي ما هذا الأزعر الذي جئت به معك? فقال لها: يا ابنتي هذا صاحبي عبد الله البري الذي كنت أجيء لك من عنده بالفاكهة البرية تعالي سلمي عليه فتقدمت وسلمت عليه بلسانٍ فصيحٍ وكلامٍ بليغٍ فقال أبوها: هات زاداً لضيفنا الذي حلت علينا بقدومه البركة فجاءت له بسمكتين كبيرتين كل واحدةٍ منها مثل الخروف فقال له: كل فأكل غصباً عنه من الجوع لأنه سئم من أكل السمك وما عندهم شيءٌ غير السمك فما مضى حصةً إلا وامرأة عبد الله البحري أقبلت وهي جميلة الصورة ومعها ولدان كل واحدٍ في يده فرخٌ من السمك يقرش فيه كما يقرش الإنسان في الحيات فلما رأت عبد الله البري قالت: أي شيء هذا الأزعر? وتقدم الولدان وأختهما وأمهم وصاروا ينظرون إلى دبر عبد الله البري ويقولون: أي أزعر والله وصاروا يضحكون عليه سخريةً فقال عبد الله البري: يا أخي هل أنت جئت بي لتجعلني سخريةً لأولادك وزوجتك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والأربعين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عبد الله البري قال لعبد الله البحري: يا أخي هل أنت جئت بي لتجعلني سخريةً لأولادك وزوجتك? فقال له عبد الله البحري: العفو يا أخي فأن الذي لا ذنب له غير موجودٍ عندنا وإذا وجد من غير ذنبٍ يأخذه السلطان ليضحك عليه ولكن يا أخي لا تؤاخذ هؤلاء الأولاد الصغار والمرأة فأن عقولهم ناقصةٌ ثم صرخ عبد الله البحري على عياله وقال لهم: اسكتوا فخافوا منه وسكتوا وجعل يأخذ بخاطره فبينما هو يتحدث معه وإذا بعشرة أشخاصٍ كبارٍ شدادٍ غلاظٍ أقبلوا عليه وقالوا: يا عبد الله أنه بلغ الملك أن عندك أزعر من البر، قال: نعم وهو هذا الرجل فأنه صاحبي أتاني ضيفاً ومرادي أن أرجعه إلى البر، قالوا له: أننا لا نقدر أن نروح إلا به فأن كان مرادك كلاماً فقم وخذه وأحضر به قدام الملك والذي تقوله لنا قله للملك فقال عبد الله البحري. يا أخي العذر واضحٌ ولا يمكننا مخالفة الملك ولكن أمضي معي للملك وأنا أسعى في خلاصك منه أن شاء الله تعالى فلا تخف فأنه متى رآك وعرف أنك من أولاد البر ومتى علم أنك بريءٌ فلا بد أنه يكرمك ويردك إلى البر. فقال عبد الله البري: الرأي رأيك فأنا أتوكل على الله وأمشي معك ثم أخذه ومضى به إلى أن وصل إلى الملك فلما رآه ضحك وقال: مرحباً بالأزعر وصار كل من كان حوله يضحك عليه ويقول: أي والله أنه أزعر فتقدم عبد الله البحري إلى الملك وأخبره بأحواله وقال له: هذا من أولاد البر وصاحبي وهو لا يعيش بيننا لأنه لا يحب أكل السمك إلا مقلياً أو مطبوخاً والمراد أنك تأذن لي في أن أرده إلى البر.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 907
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 908
فقال له الملك: حيث أن الأمر كذلك وأنه لا يعيش عندنا فقد أذنت لك أن ترده إلى مكانه بعد الضيافة ثم أن الملك قال: هاتوا له الضيافة فأتوا له بسمكٍ أشكالاً وألواناً فأكل امتثالاً لأمر الملك ثم قال له الملك: تمن علي فقال عبد الله البري: أتمنى عليك أن تعطيني جواهر فقال: خذوه إلى دار الجواهر ودعوه ينقي ما يحتاج إليه فأخذه صاحبه إلى دار الجواهر ونقى على قدر ما أراد ثم رجع إلى مدينته وأخرج له صرةً وقال له: خذ هذه أمانةٌ وأوصلها إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فأخذها وهو لا يعلم ما فيها ثم خرج معه ليوصله إلى البر فرأى في طريقه غناءً وفرحاً وسماطاً ممدوداً من السمك والناس يأكلون ويغنون وهم في فرحٍ عظيمٍ فقال عبد الله البري لعبد الله البحري: ما لهؤلاء الناس في فرحٍ عظيمٍ هل عندهم عرسٌ? فقال البحري: ليس عندهم عرسٌ وإنما مات عندهم ميتٌ فقال له: وهل أنتم إذا مات عندكم ميت تفرحون له وتغنون وتأكلون? قال: نعم وأنتم يا أهل البر ماذا تفعلون? قال البري: إذا مات عندنا ميت نحزن عليه ونبكي والنساء يلطمن وجوههن ويشققن جيوبهن حزناً على من مات فحملق عبد الله البحري عينيه في عبد الله البري وقال له: هات الأمانة فأعطاها له ثم أخرجه إلى البر وقال له: قد قطعت صحبتك وودك فبعد هذا اليوم لا تراني ولا أراك فقال له: لماذا هذا الكلام? فقال له: ما أنتم يا أهل البر أمانة الله. فقال البري: نعم قال: فكيف لا يهون عليكم أن الله يأخذ أمانته بل تبكون عليها فكيف أعطيك أمانة النبي صلى الله عليه وسلم وأنتم إذا أتاكم المولود تفرحون به مع أن الله يضع فيه الروح أمانةً فإذا أخذها كيف تصعب عليكم وتبكون وتحزنون فما لنا في رزقكم حاجةً ثم تركه وراح إلى البر ثم أن عبد الله البري لبس حوائجه وأخذ جواهره وتوجه إلى الملك فتلقاه باشتياقٍ وفرحٍ به وقال له: كيف أنت يا نسيبي وما سبب غيابك عني هذه المدة? فأخبره بقصته وما رآه من العجائب في البحر.
فتعجب الملك من ذلك ثم أخبره بما قاله عبد الله البحري فقال له: أنت الذي أخطأت في أخبارك له بهذا الخبر ثم أنه استمر مدةً من الزمان وهو يروح إلى جانب البحر ويصيح على عبد الله البحري فلم يرد عليه ولم يأت إليه فقطع عبد الله البري الرجاء منه وأقام هو والملك نسيبه وأهلهما في أسر حالٍ وأحسن أعمالٍ حتى أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات وماتوا جميعاً فسبحان الحي الذي لا يموت ذي الملك والملكوت وهو على كل شيءٍ قديرٍ وبعباده لطيفٌ خبيرٌ.
من نوادر هارون الرشيد مع الشاب العماني
ومما يحكى أيضاً أن الخليفة هارون الرشيد أرق ذات ليلة أرقاً شديداً فاستدعى مسروراً فحضر فقال له: ائتني بجعفرٍ بسرعةٍ فمضى وأحضره، فلما حضر وقف بين يديه قال له: يا جعفر قد اعتراني في هذه الليلة أرقٌ فمنع عني النوم ولا أعلم ما يزيله عني قال: يا أمير المؤمنين قد قالت الحكماء: النظر إلى المرآة ودخول الحمام واستعمال الغناء يزيل الهم والفكر فقال: يا جعفر أني قد فعلت هذا كله فلم يزل عني شيئاً وأنا أقسم بآبائي الطاهرين أن لم تتسبب فيما يزيل عني ذلك لأضربن عنقك قال: يا أمير المؤمنين هل تفعل ما أشير به عليك? قال الخليفة: وما الذي تشير به علي? قال: أن تنزل بنا في زورقٍ وننحدر به في بحر الدجلة مع الماء إلى محلٍ يسمى قرن الصراط لعلنا نسمع أو ننظر ما لم ننظر فأنه قد قبل تفريج الهم بواحدٍ من ثلاثة أمور وأن يرى الإنسان ما لم يكن رآه أو يسمع ما لم يكن سمعه أو يطأ أرضاً ما لم يكن وطئها فلعل ذلك يكون سبباً في زوال القلق عنك يا أمير المؤمنين. فعند ذلك قام الرشيد من موضعه وصحبته جعفر وأخوه الفضل وأبو اسحق النديم وأبو نواس وأبو دلف ومسرور والصياد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والأربعين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة لما قام من موضعه وصحبته جعفر وباقي جماعته دخلوا حجرة الثياب ولبسوا كلهم ملابس التجار وتوجهوا إلى الدجلة ونزلوا في زورقٍ مزركشٍ بالذهب وانحدروا مع الماء حتى وصلوا إلى الموضع الذي يريدونه فسمعوا أصواتاً جاريةً تغني على العود وتنشد هذه الأبيات: قولٌ وقد حضر الـعـقـار وقد غنى على الأيك الهزار
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 908
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 909
إلى كم ذا التأني عن سرورٍ أفق ما العمر إلا مستعار
فخذها من يدي ظبيٍ غريرٍ بجفنيه فتورٌ وانكـسـار
زرعت بخده ورداً طـرياً فأثمر في السوالف جلنار
وتحسب موضع التخمـيس فيه رمادا خامداً والخدنار
يقول لي العزول تسل عنه فما عذري وقد تم العـذار
فلما سمع الخليفة هذا الصوت قال: يا جعفر ما أحسن هذا الصوت قال جعفر: يا مولانا ما طرق سمعي أطيب ولا أحسن من هذا الغناء ولكن يا سيدي أن السماع من وراء جدارٍ نصف سماعٍ فكيف بالسماع من خلف سترٍ فقال: انهض بنا يا جعفر حتى نتطفل على صاحب هذه الدار لعلنا نرى المغنية عياناً، قال جعفر: سمعاً وطاعةً فصعدوا من الكوكب واستأذنوا في الدخول وإذا بشابٍ مليح المنظر عذب الكلام فصيح اللسان خرج إليهم وقال: أهلاً وسهلاً يا سادتي المنعمين علي أدخلوا بالرحب والسعة فدخلوا وهو بين أيديهم فرأوا الدار بأربعة أوجهٍ وسقفها بالذهب وحيطانها منقوشةٌ بالأزورد وفيها إيوانٌ به سدبةٌ جميلةٌ وعليها مائة جاريةٍ كأنهن أقمار فصاح عليهن فنزلن عن أسرتهن ثم التفت رب المنزل إلى جعفر وقال: يا سيدي أنا ما أعرف منكم الجليل من الأجل بسم الله ليتفضل منكم من هو أعلى في الصدر ويجلس أخوانه كل واحد في مرتبته فجلس كل واحدٍ في منزلته وقام مسرورٌ في الخدمة بين أيديهم، ثم قال لهم صاحب المنزل عن أذنكم هل أحضر لكم شيئاً من المأكول? قالوا له: نعم. فأمر الجواري بإحضار الطعام فأقبل أربع جوارٍ مشدودات الأوساط بين أيديهن مائدةٌ وعليها من غرائب الألوان مما درج وطار وسبح في البحار من قطاً وسماني وأفراخ وحمام ومكتوب على حواشي السفرة من الأشعار ما يناسب المجلس فأكلوا على قدر كفايتهم ثم غسلوا أيديهم فقال الشاب: يا سادتي أن كان لكم حاجةٌ فأخبرونا بها حتى نتشرف بقضائها قالوا: نعم فأننا ما جئنا منزلك إلا لأجل صوت سمعناه من وراء حائط دارك فاشتهينا أن نسمعه ونعرف صاحبته فأن رأيت أن تنعم علينا بذلك كان من مكارم أخلاقك ثم نعود من حيث جئنا. فقال: مرحبا بكم. ثم التفت إلى جاريةٍ سوداءٍ وقال: أحضري سيدتك فلانةٌ. فذهبت الجارية ثم جاءت ومعها كرسي فوضعته ثم ذهبت ثانيةٍ وأتت جاريةٌ كأنها البدر في تمامه فجلست على الكرسي أمام الجارية السوداء وناولتها خرقة من أطلسٍ فأخرجت منها عوداً مرصعاً بالجواهر واليواقيت وملأوا من الذهب.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والأربعين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما أقبلت جلست على كرسي وأحرجت العود من الخريطة وإذا هو مرصع بالجوهر واليواقيت وملاويه من الذهب فشدت أوتاره لرناتٍ المزاهر وهي كما قال فيها وفي عودها الشاعر: حضنته كالأم الشفيقة بابـنـهـا في حجرها وجلت عليه ملاويه
ما حركت يدها اليمـين لـجـه إلا وأصلحت اليسـار مـدويه
ثم ضمت العود إلى صدرها وانحنت عليه انحناء الوالدة على ولدها وجست أوتاره فاستغاث كما يستغيث الصبي بأمه، ثم ضربت عليه وجعلت تنشد هذه الأبيات: جاد الزمان بمن أحب فاعـتـبـا يا صاحبي فأدر كؤوسك واشربا
من خمرةٍ ما مازحت قلب امريءٍ إلا وأصبح بالمسرة مـطـربـا
قام النسيم يحملها في كـأسـهـا أرايت بدر الثم يحمل كـوكـبـا
كم ليلةٍ سامرت فيهـا بـدرهـا من فوق دجلة قد أضاء الغيهبـا
والبدر يجنح للغـروب كـأنـمـا قد مد فوق الماء سيفاً مذهـبـا
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 909
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 910
فلما فرغت من شعرها بكت بكاءً شديداً وصاح كل من في الدار من البكاء حتى كادوا أن يهلكوا وما منهم أحدٌ إلا وغاب عن وجوده ومزق أثوابه ولطم على وجهه لحسن غنائها فقال الرشيد: أن غناء هذه الجارية يدل على أنها عاشقةٌ مفارقةٌ فقال سيدها: أنها ثاكلةٌ لأمها وأبيها فقال الرشيد: ما هذا بكاء من فقد أباه وأمه وإنما هو شجو من فقد محبوبه وطرب الرشيد من غنائها وقال لأبي اسحق: والله ما رأيت مثلها فقال أبو اسحق: يا سيدي أني لأعجب منها غاية العجب ولا أملك نفسي من الطرب وكان الرشيد مع ذلك كله ينظر إلى صاحب الدار ويتأمل في محاسنه وظرف شمائله فرأى في وجهه اصفرارا فالتفت إليه وقال: يا فتى فقال: لبيك يا سيدي فقال له: هل تعلم من نحن? قال: لا فقال له جعفر: أتحب أن نخبرك عن كل واحدٍ باسمه? فقال: نعم فقال جعفر: هذا أمير المؤمنين وابن عم سيد المرسيلين وذكر له بقية أسماء الجماعة وبعد ذلك قال الرشيد: أشتهي أن تخبرني عن هذا الاصفرار الذي في وجهك هل هو مكتسبٌ أو أصلي من حين ولادتك? قال: يا أمير المؤمنين أن حديثي غريب وأمري عجيب لو كتب بالإبر على أماق البصر لكان عبرةً لمن أعتبر.
قال: أعلمني به لعل شفاءك يكون على يدي قال: يا أمير المؤمنين أعرني سمعك، وأخلي لي ذرعك قال: هات فحدثني فقد شوقتني إلى سماعه.
فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أني رجلٌ تاجرٌ من تجار البحر، وأصلي من مدينة عمان وكان أبي تاجرا كثير المال وكان له ثلاثون مركباً تعمل في البحر أجرتها في كل عام ثلاثون ألف دينارٍ وكان رجلاً كريماً وعلمني الخط وجميع ما يحتاج إليه الشخص فلما حضرته الوفاة دعاني وأوصاني بما جرت به العادة ثم توفاه الله تعالى إلى رحمته وأبقى الله أمير المؤمنين وكان لأبي شركاءٌ يتجرون في ماله ويسافرون في البحر فاتفق في بعض الأيام أني كنت قاعداً في منزلي مع جماعةٍ من التجار إذ دخل علي غلامٌ من غلماني وقال: يا سيدي أن بالباب رجلاً يطلب الإذن في الدخول عليك فأذنب له فدخل وهو حامل على رأسه شيئاً مغطى فوضعه بين يدي وكشفه فإذا فيه فواكه بغير أوانٍ وملح وطرائف ليست في بلادنا فشكرته على ذلك وأعطيته مائة دينارٍ وانصرف شاكراً، ثم فرقت ذلك على كل من كان حاضراً من الأصحاب.
ثم سألت التجار: من أين هذا? فقالوا: أنه من البصرة وأثنوا عليه وصاروا يصفون حسن البصرة وأجمعوا على أنه ليس في البلاد أحسن من مدينة بغداد ومن أهلها وصاروا يصفون بغداد وحسن أخلاقها وأهلها وطيب هوائها وحسن تركيبها فاشتاقت نفسي إليها وتعلقت آمالي برؤيتها فقمت وبعت العقار والأملاك وبعت المراكب بمائة ألف دينارٍ وبعت العبيد والجواري وجمعت مالي فصار ألف ألف دينارٍ غير المعادن والجواهر وأكتريت مركباً وشحنتها بأموالي وسائر متاعي وسافرت بها أياماً وليالي حتى جئت إلى البصرة فأقمت بها مدةً ثم استأجرت سفينةً وأنزلت مالي فيها وسرنا منحدرين أياماً قلائل حتى وصلنا إلى بغداد فسألت أين تسكن التجار وأي موضعٍ أطيب للسكان? فقالوا: في حارة الكرح فجئت إليها واستأجرت داراً في درب يسمى درب الزعفران ونقلت جميع مالي إلى تلك الدار وأقمت بها مدةً.
ثم توجهت في بعض الأيام إلى الفرجة ومعي شيءٌ من المال وكان ذلك اليوم يوم الجمعة فأتيت إلى جامعٍ يسمى جامع المنصور تقام فيه الجمعة وبعد أن خلصنا من الصلاة خرجت مع الناس إلى موضعٍ يسمى قرن الصراط فرأيت في ذلك المكان موضعاً عالياً جميلاً وله روشنٌ مطلٌ على الشاطئ وهناك شباك فذهبت من جملة الناس إلى ذلك المكان فرأيت شيخاً جالساً وعليه ثيابٌ جميلةٌ وتفوح منه رائحةٌ طيبةٌ وقد شرح لحيته فافترقت على صدره فرقتين كأنها قضيبٌ من لجين وحوله أربع جوارٍ وخمسة غلمانٍ فقلت لشخصٍ ما اسم هذا الشيخ وما صنعته? فقال: هذا طاهر ابن العلاء وهو صاحب الفتيان وكل من دخل عنده يأكل ويشرب وينظر إلى الملاح فقلت له: والله أن لي زماناً وأنا أدور على مثل هذا.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والأربعين بعد التسعمائة
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 910
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 911
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما قال: والله أن لي زماناً وأنا أدور على مثل هذا، ثم قال: فتقدمت إليه يا أمير المؤمنين وسلمت عليه، وقلت له: يا سيدي أن لي عندك حاجة، فقال: ما حاجتك? قلت: أشتهي أن أكون ضيفك في هذه الليلة فقال: حباً وكرامةً ثم قال: يا ولدي عندي جوارٌ كثيرةٌ منهن من ليلتها بعشرة دنانيرٍ ومنهن من ليلتها بأكثر فاختر من تريد فقلت: أختار التي ليلتها بعشرة دنانيرٍ، ثم وزنت له ثلثمائة دينارٍ عن شهرٍ فسلمني لغلامٍ فأخذني ذلك الغلام وذهب بي إلى حمام القصر وخدمني خدمةً حسنةً فخرجت من الحمام وأتى بي إلى مقصورةٍ وطرق الباب فخرجت له جاريةٌ فقال له: خذي ضيفك فتلقتني بالرحب والسعة ضاحكةً مستبشرةً وأدخلتني داراً عجيبةً مزركشةً بالذهب فتأملت في تلك الجارية فرأيتها كالبدر ليلة تمامه وفي خدمتها جاريتان كأنهم كوكبان ثم أجلستني وجلست بجانبي ثم أشارت إلى الجواري فأتين بمائدةٍ فيها من أنواع اللحوم من دجاجٍ وسماني وقطاً وحمامٍ فأكلنا حتى اكتفينا وما رأيت في عمري ألذ من ذلك الطعام، فلما أكلنا رفعت تلك المائدة وأحضرت مائدة الشراب والمشموم والحلوى والفواكه وأقمت عندها شهراً على هذا الحال، فلما فرغ الشهر دخلت الحمام وجئت إلى الشيخ وقلت له: يا سيدي أريد التي ليلتها بعشرين ديناراً فقال: أرني الذهب فمضيت وأحضرت الذهب فوزنت له ستمائة دينارٍ عن شهرٍ فنادى غلاماً وقال لله: خذ سيدك فأخذني وأدخلني الحمام فملا خرجت أتى بي إلى باب مقصورةٍ وطرقه فخرجت جارية، فقال لها: خذي ضيفك فتلقتني بأحسن ملتقى وإذا حولها أربع جوارٍ ثم أمرت بإحضار الطعام فحضرت مائدة عليها من سائر الأطعمة فأكلت ولما فرغت من الأكل ورفعت المائدة فأخذت العود وغنت بهذه الأبيات: أيا نفحات المسك من أرض بابلٍ بحق غرامي أن تؤدي رسائلي
عهدت بهاتيك الأراضي منازلاً لأحبابنا أكرم بها من مـنـازل
وفيها التي ما حبها كل عاشـقٍ تغني ولم يرتد منهـا بـطـائلٍ
فأقمت عندها شهراً ثم جئت إلى الشيخ وقلت: أريد صاحبة الأربعين ديناراً فقال: أزن لي الذهب فوزنت له عن شهرٍ ألفا ومائتي دينارٍ ومكثت عندها شهراً كأنه يومٌ واحدٌ لما رأيت من حسن المنظر وحسن العشرة.
ثم جئت إلى الشيخ وكنا قد أمسينا فسمعت ضجةً عظيمةً وأصواتاً عاليةً فقلت له: ما الخبر? فقال لي الشيخ: أن هذه الليلة عندنا أشهر الليالي وجميع الخلائق يتفرجون على بعضهم فيها فهل لك أن تصعد على السطح وتتفرج على الناس فقلت: نعم وطلعت على السطح فرأيت ستارةً حسنةً ووراء الستارة محلٌ عظيمٌ وفيه سدلةً وعليها فرشٌ مليحٌ وهناك صبيةٌ تدهش الناظرين حسناً وجمالاً وقداً واعتدالاً وبجانبها غلاماً يده على عنقها وهو يقبلها فلما رأيتهما يا أمير المؤمنين لم أملك نفسي ولم أعرف أين أنا لما بهرني من حسن صورتها فلما نزلت الجارية التي أنا عندها وأخبرتها بصفتها فقالت: ما لك وما لها? فقلت: والله أنها أخذت عقلي فتبسمت وقالت: يا أبا الحسن ألك فيها غرضٌ? فقلت: أي والله فأنها تملكت قلبي ولبي فقالت: هذه ابنة طاهر بن العلاء وهي سيدتنا وكلنا جواريها أتعرف يا أبا الحسن بكم ليلتها ويومها: قلت: لا قالت: بخمسمائة دينارٍ وهي حسرةٌ في قلوب الملوك فقلت: والله لأذهبن مالي كله على هذه الجارية وبت أكابد الغرام وطول ليلي فلما أصبحت دخلت الحمام ولبست أفخر ملبوس من ملابس الملوك وجئت إلى أبيها وقلت: يا سيدي أريد التي ليلتها بخمسمائة دينارٍ فقال: زن الذهب فوزنت له عن كل شهرٍ عشرة آلاف دينارٍ فأخذها ثم قال للغلام: أعمد به إلى سيدتك فلانة فأخذني وأتى بي إلى دارٍ لم تر عيني أظرف منها على وجه الأرض.
فلما دخلت رأيت الصبية جالسةً فلما رأيتها اندهش عقلي بحسنها يا أمير المؤمنين وهي كالبدر في ليلة أربعة عشر ذات حسنٍ وجمالٍ وقدٍ واعتدالٍ وألفاظ تفضح رنات المزاهر كأنها المقصود الشاعر: قالت وقد لعب الغرام بعطفهـا في جنح ليلٍ سابـل الأحـلاك
يا هل ترى لي في دجاك مسامرٌ أو هل لهذا الكس مـن نـياك
ضربت عليه بكفها وتنـهـدت كتنهد الآسف الحزين البـاكـي
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 911
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 912
والثغر بالمسواك يظهر حسنه والأير للاكساس كالمسـواك
يا مسلمون أما تقوم أيوركـم ما فيكم أحد يغيث الشاكـي
فانفض من تحت الغلائل قائماً أيري وقال لها أتـاك أتـاك
وحللت عقد أزارها فتفزعت من أنت قلت فتىً أجاب نداك
وغدوت أرهزها بمثل ذراعها رهز اللطيف يضر بالأوراك
حتى إذا ما قمت بعـد ثـلاثةٍ قالت هناك النيك قلت هناك
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والأربعين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما حدث أمير المؤمنين بصفات الجارية وأنشد في حسنها الأبيات المتقدمة ثم أنشد هذه الأبيات: ولو أنها للمشركين تـعـرضـت لبلوائها من دون أصنامهـم ربـا
ولو تفلت في البـحـر مـالـح لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا
ولو أنها في الشرق لاحت لراهبٍ لخلي سبيل الشرق وأتبع الغربـا
وما أحسن قول الآخر: نظرت إليها نظرةً فتغـيرت دقائق فكري في بديع صفاتها
فأوحى إليهم الوهم أني أحبها فأثر ذاك الوهم في جناتهـا
فسلمت عليها فقالت: أهلاً وسهلاً ومرحباً وأخذت بيدي يا أمير المؤمنين وأجلستني إلى جانبها فمن فرط الإشتياق بكيت حماقة الفراق وأسبلت دمع العين وأنشدت هذين البيتين: أحب ليالي الهجر لا فرحاً بهـا عسى الدهر يأتي بعدها بوصال
وأكره أيام الوصـال لأنـنـي أرى كل شيءٍ معقبـاً بـزوال
ثم أنها صارت تؤانسني بلطف وأنا غريقٌ في بحر الغرام خائف في القرب ألم الفراق من فرط الوجد والإشتياق وتذكرت لوعة النوى والبين فأنشدت هذين البيتين: فكرت ساعة وصلها في هجرها فجرت مدامع مقلتي كالعنـدم
فطفقت أمسح مقلتي في جيدها من عادة الكافور إمساك الـدم
ثم أمرت بإحضار الأطعمة فأقبلت أربع جوار نهد أبكار فوضعن بين أيدينا من الأطعمة والفاكهة والحلوى والمشموم والمدام ما يصلح للملوك فأكلنا يا أمير المؤمنين وجلسنا على المدام وحولنا الرياحين في مجلسٍ لا يصلح إلا للملك ثم جاءتها يا أمير المؤمنين جاريةٌ بخريطةٍ من الابرسيم فأخذتها وأخرجت منها عوداً فوضعته في حجرها وجست أوتاره فاستغاث كما يستغيث الصبي بأمه وأنشدت هذين البيتين: لا تشرب الراح إلا من يدي رشأ تحيكه في رقة المعنى ويحيكها
أن المدامة لا يلتـذ شـاربـهـا حتى يكون نقي الخد ساقيهـا.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والأربعين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال: لما أنشدت هذين البيتين فأقمت يا أمير المؤمنين عندها على هذه الحالة مدةً من الزمان حتى نفذ جميع مالي فتذكرت وأنا جالسٌ معها مفارقتها فنزلت دموعي على خدي كالأنهار وصرت لا أعرف الليل من النهار فقالت: لأي شيءٍ تبكي? فقلت لها: يا سيدتي من حين جئت إليك وأبوك يأخذ مني في كل ليلةٍ خمسمائة دينارٍ وما بقي عندي شيءٌ من المال وقد صدق قول الشاعر حيث قال: الفقر في أوطاننا غـربةٌ والمال في الغربة أوطان
فقالت: أعلم أن أبي من عادته أنه إذا كان عنده تاجرٌ وافتقر فأنه يضيفه ثلاثة أيامٍ ثم بعد ذلك يخرجه فلا يعود إلينا أبداً ولكن أكتم سرك وأخف أمرك وأنا أعمل حيلةً في اجتماعي بك إلى ما شاء الله فأن لك في قلبي محبةً عظيمةً وأعلم أن جميع مال أبي تحت يدي وهو لا يعرف قدره فأنا أعطيك في كل يوم كيساً فيه خمسمائة دينارٍ وأنت تعطيه لأبي وتقول له: ما بقيت أعطي الدراهم إلا يوماً بيومٍ وكل ما دفعته إليه فأنه يدفعه إلى وأنا أعطيه لك وتستمر هكذا إلى أن شاء الله فشكرتها على ذلك وقبلت يدها.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 912
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 913
ثم أقمت عندها يا أمير المؤمنين على هذه الحالة مدة سنةٍ كاملةٍ فاتفق في بعض الأيام أنها ضربت جاريتها ضرباً وجيعاً فقالت لها: والله لأوجعن قلبك كما أوجعتيني ثم مضت تلك الجارية إلى أبيها وأعلمته بأمرنا من أوله إلى أخره فلما سمع طاهر بن العلاء كلام الجارية قام من وقته وساعته ودخل علي وأنا جالسٌ مع ابنته وقال لي: فلان قلت له: لبيك قال: عادتنا انه إذا كان عندنا تاجر وافتقر أننا نضيفه عندنا ثلاثة أيامٍ وأنت لك عندنا سنةً تأكل وتشرب وتفعل ما تشاء.
ثم التفت إلى غلمانه وقال: اخلعوا ثيابه ففعلوا وأعطوني ثياباً رديئةً قيمتها خمسة دراهمٍ ودفعوا إلي عشرة دراهمٍ ثم قال له: أخرج فأنا لا أضربك ولا أشتمك واذهب إلى حال سبيلك وأن أقمت في هذه البلدة كان دمك هدارٌ فخرجت يا أمير المؤمنين رغم أنفي ولا أعلم أين أذهب وحل قلبي كل همٍ في الدنيا وشغلني الوسواس وقلت في نفسي كيف أجيء في البحر بألف ألف من جملتها ثمن ثلاثين مركباً ويذهب هذا كله في دار هذا الشيخ النحس وبعد ذلك أخرج من عنده عريانا مكسور القلب? فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم أقمت في بغداد ثلاثة أيامٍ لم أذق طعاماً ولا شراباً وفي اليوم الرابع رأيت سفينةً متوجهةً إلى البصرة فنزلت واستكريت مع صاحبها إلى أن وصلت إلى البصرة فدخلت السوق وأنا في شدة الجوع فرآني رجل بقال فقام إلي وعانقني لأنه كان صاحباً لي ولأبي من قبلي وسألني عن حالي فأخبرته بجميع ما جرى لي فقال لي: والله ما فعال عاقلٍ ومع هذا الذي جرى لك فأي شيءٌ في ضميرك تريد أن تفعله? فقلت له: لا أدري ماذا أفعل فقال: أتجلس عندي وتكتب خرجي ودخلي ولك في كل يومٍ درهم زيادةً على أكلك وشربك? فأجبته وأقمت عنده يا أمير المؤمنين سنةً كاملةً أبيع واشتري إلى أن صار معي مائة دينارٍ فاستأجرت غرفةً على شاطئ البحر لعل مركباً تأتي ببضاعةٍ فاشتري بالدنانير بضاعةً وأتوجه إلى بغداد فاتفق في بعض الأيام أن المراكب جاءت وتوجهت إليها جميع التجار يشترون فرحت معهم وإذا برجلين قد خرجا من بطن المركب ونصبا لهما كرسيين وجلسا عليهما ثم أقبل التجار عليها لأجل الشراء فقال لبعض الغلمان: أحضروا البساط فأحضروه وجاء واحدٌ بخرجٍ منه جراباً وفتحه وكبه على البساط وإذا به يخطف البصر لما فيه من الجواهر واللؤلؤ والمرجان والعقيق من سائر الألوان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والأربعين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما أخبر الخليفة بقضية التجار وبالجراب وما فيه من سائر أنواع الجواهر قال: يا أمير المؤمنين ثم أن واحداً من الرجلين الجالسين على الكراسي التفت إلى التجار وقال لهم: يا معشر التجار أنا ما أبيع في يومي هذا لأني تعبان فتزايدت التجار في الثمن حتى بلغ مقداره أربعمائة دينارٍ فقال لي صاحب الجراب وكان بيني وبينه معرفةً قديمةً لماذا لم تتكلم ولم تزود مثل التجار? فقلت له: والله يا سيدي ما بقي عندي شيءٌ من الدنيا سوى مائة دينارٍ واستحيت منه ودمعت عيناي فنظر إلي وقد عسر عليه حالي، ثم قال للتجار: أشهدوا على أني بعت جميع ما في الجراب من أنواع الجواهر والمعادن لهذا الرجل بمائة دينار وأنا أعرف أنه يساوي كذا وكذا ألف دينارٍ وهو هديةٌ مني إليه فأعطاني الخرج والجراب والبساط وجميع ما عليه من الجواهر فشكرته على ذلك وجميع من حضر من التجار أثنوا عليه ثم أخذت ذلك ومضيت به إلى سوق الجواهر وقعدت أبيع واشتري وكان من جملة هذه المعادن قرص تعويذ صنعه المعلمين وزنته نصف رطلٍ وكان أحمر شديد الحمرة وعليه أسطر مثل دبيب النمل من الجانبين ولم أعرف منفعته فبعت واشتريت مدة سنةٍ كاملةٍ ثم أخذت قرص التعويذ وقلت: هذا له عندي مدة لا أعرفه ولا أعرف منفعته فدفعته إلى الدلال فأخذه ودرا به ثم عاد وقال: ما دفع واحدٌ من التجار سوى عشرة دراهمٍ فقلت له: ما أبيعه بهذا القدر فرماه في وجهي وانصرف.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 913
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 914
فعرضته للبيع يوماً أخر فلبغ ثمنه خمسة عشر درهماً فأخذته من الدلال مغضباً ورميته عندي فبينما أنا جالس يوماً إذ أقبل علي رجل فسلم علي وقال لي: عن أذنك هل أقلب ما عندك من البضائع? قلت: نعم وأنا يا أمير المؤمنين مغتاظٌ من كساد قرص التعويذ فقلب الرجل البضاعة ولم يأخذ منها سوى قرص التعويذ فلما رآه يا أمير المؤمنين قبل يده وقال: الحمد لله ثم قال: يا سيدي أتبيع هذا? فازداد غيظي وقلت له: نعم فقال لي: كم ثمنه? فقلت له: كم تدفع فيه أنت? قال عشرين ديناراً، فتوهمت أنه يستهزيء بي فقلت: اذهب إلى حال سبيلك فقال لي هو: أبخمسين ديناراً فلم أخاطبه فقال: ألف دينارٍ هذا كله يا أمير المؤمنين وأنا ساكتٌ ولم أجبه وهو يضحك من سكوتي ويقول: لأي شيءٍ لم ترد علي? فقلت له: اذهب إلى حال سبيلك وأردت أن أخاصمه وهو يزيد ألفاً بعد ألفٍ ولم أرد عليه حتى قال: أتبيعه بعشرين ألف دينارٍ? وأنا أظن أنه يستهزيء بي فاجتمع علينا الناس كلٌ منهم يقول بعد وأن لم يشتر فنحن الكل عليه ونضربه ونخرجه من البلد فقلت له: هل أنت تشتري أو تستهزيء? قلت له: أبيع قال: هو بثلاثين ألف دينارٍ وخذها وأمضي البيع وأنا أخبرك بفائدته ونفعه فقلت: بعتك فقال: الله على ما تقول وكيل.
ثم أخرج الذهب وأقبضني إياه وأخذ قرص التعويذ ووضعه في جيبه ثم قال لي: هل رضيت? قلت: نعم فقال أشهدوا عليه أنه أمضى البيع وقبض الثمن ثلاثين ألف دينارٍ ثم إنه التفت إلى وقال: يا مسكين والله لو أخرت البيع لزدناك إلى مائة ألف دينارٍ بل إلى مائة ألف ألف دينارٍ، فلما سمعت يا أمير المؤمنين هذا الكلام نفر الدم من وجهي وعلا عليه هذا الاصفرار الذي أنت تنظره من ذلك اليوم ثم قلت له: أخبرني ما سبب ذلك وما نفع هذا القرص? فقال: اعلم أن ملك الهند له بنت لم ير أحسن منها وبها داء الصداع فأحضر الملك أرباب الأقلام وأهل العلوم والكهان فلم يرفعوا عنها ذلك فقلت له وكنت حاضراً بالمجلس: أيها الملك أنا أعرف رجلاً يسمى سعد الله البابلي ما على وجه الأرض أعرف منه بهذه الأمور فإن رأيت أن ترسلني إليه فأفعل فقال: اذهب إليه فقلت له: أحضر إلي قطعةً كبيرةً من العقيق ومعها ألف دينارٍ وهديةٍ فأخذت ذلك وتوجهت إلى بلاد بابلٍ فسألت عن الشيخ فدلوني عليه ودفعت له المائة ألف دينارٍ والهدية فأخذ ذلك مني ثم أخذ قطعة العقيق وأحضر حكاكاً فعملها هذا التعويذ ومكث الشيخ سبعة أشهرٍ يرصد النجم حتى اختار وقتاً لكتابته وكتب عليه هذه الطلاسم التي تنظرها ثم جئت به إلى الملك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخمسين بعد التسعمائة
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 914
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 915
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لأمير المؤمنين: إن الرجل قال لي: أخذت هذا التعويذ وجلت به إلى الملك فلما وضعه على ابنته برنت من ساعتها وكانت مربوطةً في أربع سلاسلٍ وكل ليلةٍ تبيت عندها جاريةٌ فتصبح مذبوحةً فمن حين وضع عليها هذا التعويذ برنت لوقتها ففرح الملك فرحاً شديداً وخلع علي وتصدق بمالٍ كثيرٍ ثم وضعه في عقدها فاتفق أنها نزلت يوماً في مركب هي وجواريها تتنزه في البحر فمدت جاريةٌ يدها إليها لتلاعبها فانقطع العقد وسقط في البحر فعاد من ذلك الوقت العارض لابنة الملك فحصل ما حصل للملك من الحزن فأعطاني مالاً كثيراً وقال لي: اذهب إلى الشيخ ليعمل لها تعويذةً عوضاً عنها فسافرت إليه فوجدته قد مات فرجعت إلى الملك وأخبرته فبعثني أنا وعشرة أنفسٍ نطوف في البلاد لعلنا نجد لها دواء فأوقعني الله به عندك فأخذه مني يا أمير المؤمنين وانصرف فكان ذلك الأمر سبباً للاصفرار الذي في وجهي ثم أني توجهت إلى بغداد ومعي جميع مالي وسكنت في الدار التي كنت فيها فلما أصبح الصباح لبست ثيابي وجئت إلى بيت طاهر بن العلاء لعلي أرى من أحبها فإن حبها لم يزل يتزايد في قلبي فلما وصلت إلى داره رأيت الشباك قد انهدم فسألت غلاماً وقلت له: ما فعل الله بالشيخ? فقال: يا أخي أنه قدم عليه في سنة من السنين رجلٌ تاجرٌ يقال له أبو الحسن العماني فأقام مع ابنته مدةً من الزمان ثم بعد أن ذهب ماله أخرجه الشيخ من عنده مكسور الخاطر وكانت الصبية تحبه حباً شديداً فلما فارقها مرضت مرضاً شديداً حتى بلغت الموت وعرف أباها بذلك فأرسل خلفه في البلاد وقد ضمن لمن يأتي به مائة ألف دينارٍ فلم يره أحد ولم يقع له على أثرٍ وهي الآن مشرفة على الموت قلت: وكيف حال أبيها? قال: باع الجواري من عظم ما أصابه فقلت له: هل أدلك على أبي الحسن العماني? فقال: وبالله عليك يا أخي أن تدلني عليه فقلت له: اذهب إلى أبيها وقل له: لي البشارة عندك فإن أبا الحسن العماني واقفٌ على الباب.
فذهب الرجل يهرول كأنه بغلٌ انطلق من طاحونٍ ثم غاب ساعةٍ وجاء وصحبته الشيخ فلما رأني رجع إلى داره وأعطى الرجل مائة ألف دينارٍ فأخذها وانصرف وهو يدعو لي ثم أقبل الشيخ وعانقني وبكى وقال: يا سيدي أين كنت في هذه الغيبة هلكت ابنتي من أجل فراقك فأدخل معي إلى المنزل فلما دخلت سجد شكراً لله تعالى وقال الحمد لله الذي جمعنا بك ثم دخل لابنته وقال لها شفاك الله من هذا المرض فقالت يا أبت ما أبرا من مرضي إلا إذا نظرت وجه أبي الحسن فقال إذا أكلت أكله ودخلت الحمام جمعت بينكما فلما سمعت كلامه قالت أصحيحٌ ما تقول قال لها والله العظيم أن الذي قلته صحيحٌ فقالت والله إن نظرت وجهاً ما أحتاج إلى أكلٍ فقال لغلامه: أحضر سيدك فدخلت فلما نظرت إلى أمير المؤمنين وقعت مغشياً عليها فلما أفاقت أنشدت هذا البيت: وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
ثم استوت جالسةً وقالت: يا سيدي ما كنت أظن أني أرى وجهك إلا أن كان مناماً، ثم أنها عانقتني وبكت وقالت يا أبا الحسن الآن آكل وأشرب فأحضروا الطعام والشراب، ثم صرت عندهم يا أمير المؤمنين مدةً من الزمان وعادت كما كانت عليه من الجمال، ثم أن أباها استدعى بالقاضي والشهود وكتب كتابها علي وعمل وليمةً عظيمةً وهي زوجتي إلى الآن.
ثم أن ذلك الفتى قام من عند الخليفة ورجع إليه بغلامٍ بديع الجمال بقدٍ ذي رشاقةٍ واعتدالٍ وقال له قبل الأرض بين يدي أمير المؤمنين فقبل الأرض بين يدي الخليفة فتعجب الخليفة من حسنه وسبح خالقه، ثم أن الرشيد انصرف هو وجماعته وقال يا جعفر مما هذا إلا شيءٌ عجيبٌ ما رأيت ولا سمعت بأغرب منه. فلما جلس الرشيد في دار الخلافة قال: يا مسرور قال: لبيك يا سيدي قال أجمع في هذا الإيوان خراج البصرة وخراج بغداد وخراج خراسان فجمعه فصار مالاً عظيماً لا يحصى عدده إلا الله تعالى.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 915
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 916
ثم قال الخليفة: يا جعفر قال لبيك قال أحضر لي أبا الحسن قال سمعاً وطاعةً ثم أحضره فلما حضر قبل الأرض بين يدي الخليفة وهو خائفٌ أن يكون طلبه بسبب خطأ وقع منه وهو عنده بمنزله فقال الرشيد: يا عماني قال له لبيك يا أمير المؤمنين خلد الله نعمه عليك، فقال له اكشف هذه الستارة، وكان الخليفة أمرهم أن يضعوا مال الأقاليم ويسلبوا عليه الستارة، فلما كشف العماني الستارة عن الإيوان اندهش عقله من كثرة المال فقال الخليفة يا أبا الحسن أهذا المال أكثر أم الذي فاتك من قرص التعويذ فقال له بل هذا يا أمير المؤمنين أكثر بأضعافٍ كثيرة.
قال الرشيد: أشهدوا يا من حضر أني وهبت هذا المال لهذا الشاب، فقبل الأرض واستحى وبكى من شدة الفرح بين يدي الرشيد، فلما بكى جرى الدمع من عينيه على خده فرجع الدم إلى محله فصار وجهه كالبدر ليلة تمامه، فقال الخليفة لا آله إلا الله سبحان من يغير حالاً بعد حال وهو باقٍ لا يتغير، ثم أتى بمرآة وأراه وجهه فيها فلما رآه سجد شكراً لله تعالى، ثم أمر الخليفة يحمل إليه المال وسأله أنه لا ينقطع عنه لأجل المنادمة فصار يتردد إليه إلى أن توفى الخليفة إلى رحمة الله تعالى، فسبحان الحي الذي لا يموت ذي الملك والملكوت.
حكاية إبراهيم بن الخصيب
مع جميلة بنت أبي الليث عامل البصرة
ومما يحكى أيضاً أيها الملك السعيد أن الخصيب صاحب مصر كان له ولدٌ ولم يكن في زمانه أحسن منه وكان من خوفه عليه لا يمكنه من الخروج إلا لصلاة الجمعة، فمر وهو خارجٌ من صلاة الجمعة على رجلٌ كبيرٌ وعنده كتب كثيرة فنزل عن فرسه وقعد عنده وقلب الكتب وتأملها فرأى فيها صورة امرأةٍ تكاد أن تنطق ولم ير أحسن منها على وجه الأرض فسلبت عقله وأذهلت لبه.
فقال له: يا شيخ بغني هذه الصورة، فقبل الأرض بين يديه ثم قال له يا سيدي بغير ثمن فدفع له مائة دينارٍ وأخذ الكتاب الذي به الصورة وصار ينظر إليها ويبكي ليله ونهاره وامتنع عن الأكل والشراب والمنام، فقال في نفسه، لو سألت الكتبي عن صانع هذه الصورة من هو ربما أخبرني فإن كانت صاحبتها في الحياة توصلت إليها وإن كانت صورة مطلقةٍ تركت التولع بها ولا أعذب نفسي بشيءٍ لا حقيقة له.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والخمسين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما قال في نفسه لو سألت الكتبي عن هذه الصورة ربما أخبرني فإن كانت صورة مطلقة تركت التولع بها لا أعذب نفسي بشيءٍ لا حقيقة له. فلما كان يوم الجمعة مر على الكتبي فنهض إليه قائماً فقال له يا عم أخبرني من صنع هذه الصورة قال: يا سيدي صنعها رجل من أهل بغداد يقال له أبو القاسم الصندلاني في حارةٍ تسمى حارة الكرح ولا أعلم من هي.
فقام الغلام من عنده ولم يعلم أحداً من أهل مملكته، ثم صلى الجمعة وعاد إلى البيت فتناول جراباً وملأه من الجواهر والذهب وقيمة الجواهر ثمانون ألف دينارٍ، ثم صبر إلى الصباح وخرج ولم يعلم به أحدٌ ولحق قافلةً فرأى بدوياً فقال له يا عم كم بيني وبين بغداد فقال له يا ولدي أين أنت وأين بغداد إن بينك وبينها مسيرة شهرين فقال له يا عم إن أوصلتني إلى بغداد أعطيك مائة دينارٍ وهذه الفرس التي تحتي وقيمتها ألف دينارٍ.
فقال له البدوي الله على ما تقول وكيل ولكن لا ننزل في هذه الليلة إلا عندي، فأجابه إلى قوله وبات عنده، فلما لاح الفجر رافقه البدوي وسار به سريعاً في طريقٍ قريبٍ طمعاً في تلك الفرس التي وعده بها، وما زالا سائرين حتى وصلا إلى حيطان بغداد فقال له البدوي الحمد لله على السلامة يا سيدي هذه بغداد، ففرح الغلام فرحاً شديداً ونزل عن الفرس وأعطاها للبدوي هي والمائة دينار.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 916
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 917
ثم تناول الجراب ومضى يسائل عن حارة الكرح وعن محل التجار فساقه القدر إلى دربٍ فيه خمسه عشر ججر تقاتل وفي صدر الدار بابٌ بمصراعين له حلقة من فضة وفي الباب مصطبتان من الرخام مفروشتان بأحسن الفرش وفي أحدهما رجلٌ جالسٌ وهو مهابٌ حسن الصورة وعليه ثيابٌ فاخرةٌ وبين يديه خمس مماليك كأنهم أقمارٌ، فلما رأى الغلام ذلك عرف العلامة التي ذكرها له الكتبي فسلم على الرجل فرد عليه السلام ورحب به وأجلسه وسأله عن حاله فقال له الغلام: أنا رجلٌ غريبٌ وأريد من إحسانك أن تنظر لي في هذا الدرب داراً لأسكن فيها.
فصاح الرجل وقال: يا غزالة، فخرجت إليه جارية وقالت لبيك يا سيدي فقال: خذي معك بعض خدم واذهبوا إلى حجرة ونظفوها وافرشوها وحطوا فيها جميع ما يحتاج من آنية وغيرها لأجل هذا الشاب الحسن الصورة، فخرجت الجارية وفعلت ما أمرها به، ثم أخذه الشيخ وأراه الدار فقال له الغلام يا سيدي كم أجرة هذا الدار? فقال له يا جميل أنا ما آخذ منك أجرةً ما دمت هنا، فشكره على ذلك.
ثم أن الشيخ نادى جاريةً ثانيةً فخرجت إليه جاريةٌ كأنها الشمس فقال لها هات الشطرنج فأتت له، ففرش المملوك الرقعة وقال الشيخ للغلام: أتلعب معي قال نعم فلعب معه مراتٍ والغلام يغلبه، فقال أحسنت يا غلام لقد كملت صفاتك والله ما في بغداد من يغلبني وقد غلبتني أنت، ثم بعد أن هيأوا الدار بالفراش وسائر ما يحتاج إليه وسلمه المفاتيح وقال يا سيدي إلا تدخل منزلي وتأكل عيشي فنتشرف بك فأجابه الغلام إلى ذلك ومشى معه فلما وصلا إلى الدار حسنةً جميلةً مزركشةً بالذهب وفيها من جميع التصاوير ومن أنواع الفرش والأمتعة ما يعجز عن شرحه اللسان، ثم صار يحييه وأمر بإحضار الطعام فأتوا بمائدة من شغل صنعاء اليمن فوضعت وأتوا بالطعام ألواناً غريبةً لا يوجد أفخر منها ولا ألذ.
فأكل الغلام حتى اكتفى ثم غسل يديه، وصار الغلام ينظر إلى الدار والفرش، ثم التفت إلى الجراب الذي كان معه فلم يره فقال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أكلت لقمةً تساوي درهماً أو درهمين فذهب مني جراب فيه ثلاثون ألف دينارٍ ولكنه استعان بالله ثم سكت ولم يقدر أن يتكلم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والخمسين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام لما رأى الجراب مفقودٌ حصل له غمٌ كبيرٌ فسكت ولم يقدر أن يتكلم، فقدم الشيخ الشطرنج وقال للغلام: هل تلعب معي? فقال: نعم فغلبه الشيخ فقال الغلام: أحسنت: ثم ترك اللعب وقام فقال له: ما لك يا غلام? فقال: أريد الجراب، فقام وأتى به وقال: ها هو يا سيدي هل ترجع إلى اللعب معي? قال: نعم فلعب معه فغلبه الغلام، فقال الرجل: لما اشتغل فكرك بالجراب غلبتك فلما جئت به إليك غلبتني.
ثم قال له: يا ولدي أخبرني من أي البلاد أنت? فقال: من مصر، فقال له: وما سبب مجيئك إلى بغداد? فأخرج له الصورة وقال: يا عم إني ابن الخصيب صاحب مصر وقد رأيت هذه الصورة عند رجل كتبي فسلبت عقلي فسألت عن صانعها فقيل لي: إن صانعها رجل من بغداد بحارة الكرح يقال له أبو القاسم الصندلاني بدرب الزعفران فأخذت معي شيئاً من المال وجئت وحدي ولم يعلم بحالي أحدٌ وأريد من تمام إحسانك أن تدلني عليه حتى أسأله عن سبب تصويره لهذه والصورة من هي ومهما أراده مني فإني أعطيه إياه فقال: والله يا ابني إني أنا أبو القاسم الصندلاني وهذا أمرٌ عجيب كيف ساقتك المقادير إلي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والأربعين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عبد الله البري قال لعبد الله البحري: يا أخي هل أنت جئت بي لتجعلني سخريةً لأولادك وزوجتك? فقال له عبد الله البحري: العفو يا أخي فأن الذي لا ذنب له غير موجودٍ عندنا وإذا وجد من غير ذنبٍ يأخذه السلطان ليضحك عليه ولكن يا أخي لا تؤاخذ هؤلاء الأولاد الصغار والمرأة فأن عقولهم ناقصةٌ ثم صرخ عبد الله البحري على عياله وقال لهم: اسكتوا فخافوا منه وسكتوا وجعل يأخذ بخاطره فبينما هو يتحدث معه وإذا بعشرة أشخاصٍ كبارٍ شدادٍ غلاظٍ أقبلوا عليه وقالوا: يا عبد الله أنه بلغ الملك أن عندك أزعر من البر، قال: نعم وهو هذا الرجل فأنه صاحبي أتاني ضيفاً ومرادي أن أرجعه إلى البر، قالوا له: أننا لا نقدر أن نروح إلا به فأن كان مرادك كلاماً فقم وخذه وأحضر به قدام الملك والذي تقوله لنا قله للملك فقال عبد الله البحري. يا أخي العذر واضحٌ ولا يمكننا مخالفة الملك ولكن أمضي معي للملك وأنا أسعى في خلاصك منه أن شاء الله تعالى فلا تخف فأنه متى رآك وعرف أنك من أولاد البر ومتى علم أنك بريءٌ فلا بد أنه يكرمك ويردك إلى البر. فقال عبد الله البري: الرأي رأيك فأنا أتوكل على الله وأمشي معك ثم أخذه ومضى به إلى أن وصل إلى الملك فلما رآه ضحك وقال: مرحباً بالأزعر وصار كل من كان حوله يضحك عليه ويقول: أي والله أنه أزعر فتقدم عبد الله البحري إلى الملك وأخبره بأحواله وقال له: هذا من أولاد البر وصاحبي وهو لا يعيش بيننا لأنه لا يحب أكل السمك إلا مقلياً أو مطبوخاً والمراد أنك تأذن لي في أن أرده إلى البر.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 907
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 908
فقال له الملك: حيث أن الأمر كذلك وأنه لا يعيش عندنا فقد أذنت لك أن ترده إلى مكانه بعد الضيافة ثم أن الملك قال: هاتوا له الضيافة فأتوا له بسمكٍ أشكالاً وألواناً فأكل امتثالاً لأمر الملك ثم قال له الملك: تمن علي فقال عبد الله البري: أتمنى عليك أن تعطيني جواهر فقال: خذوه إلى دار الجواهر ودعوه ينقي ما يحتاج إليه فأخذه صاحبه إلى دار الجواهر ونقى على قدر ما أراد ثم رجع إلى مدينته وأخرج له صرةً وقال له: خذ هذه أمانةٌ وأوصلها إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فأخذها وهو لا يعلم ما فيها ثم خرج معه ليوصله إلى البر فرأى في طريقه غناءً وفرحاً وسماطاً ممدوداً من السمك والناس يأكلون ويغنون وهم في فرحٍ عظيمٍ فقال عبد الله البري لعبد الله البحري: ما لهؤلاء الناس في فرحٍ عظيمٍ هل عندهم عرسٌ? فقال البحري: ليس عندهم عرسٌ وإنما مات عندهم ميتٌ فقال له: وهل أنتم إذا مات عندكم ميت تفرحون له وتغنون وتأكلون? قال: نعم وأنتم يا أهل البر ماذا تفعلون? قال البري: إذا مات عندنا ميت نحزن عليه ونبكي والنساء يلطمن وجوههن ويشققن جيوبهن حزناً على من مات فحملق عبد الله البحري عينيه في عبد الله البري وقال له: هات الأمانة فأعطاها له ثم أخرجه إلى البر وقال له: قد قطعت صحبتك وودك فبعد هذا اليوم لا تراني ولا أراك فقال له: لماذا هذا الكلام? فقال له: ما أنتم يا أهل البر أمانة الله. فقال البري: نعم قال: فكيف لا يهون عليكم أن الله يأخذ أمانته بل تبكون عليها فكيف أعطيك أمانة النبي صلى الله عليه وسلم وأنتم إذا أتاكم المولود تفرحون به مع أن الله يضع فيه الروح أمانةً فإذا أخذها كيف تصعب عليكم وتبكون وتحزنون فما لنا في رزقكم حاجةً ثم تركه وراح إلى البر ثم أن عبد الله البري لبس حوائجه وأخذ جواهره وتوجه إلى الملك فتلقاه باشتياقٍ وفرحٍ به وقال له: كيف أنت يا نسيبي وما سبب غيابك عني هذه المدة? فأخبره بقصته وما رآه من العجائب في البحر.
فتعجب الملك من ذلك ثم أخبره بما قاله عبد الله البحري فقال له: أنت الذي أخطأت في أخبارك له بهذا الخبر ثم أنه استمر مدةً من الزمان وهو يروح إلى جانب البحر ويصيح على عبد الله البحري فلم يرد عليه ولم يأت إليه فقطع عبد الله البري الرجاء منه وأقام هو والملك نسيبه وأهلهما في أسر حالٍ وأحسن أعمالٍ حتى أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات وماتوا جميعاً فسبحان الحي الذي لا يموت ذي الملك والملكوت وهو على كل شيءٍ قديرٍ وبعباده لطيفٌ خبيرٌ.
من نوادر هارون الرشيد مع الشاب العماني
ومما يحكى أيضاً أن الخليفة هارون الرشيد أرق ذات ليلة أرقاً شديداً فاستدعى مسروراً فحضر فقال له: ائتني بجعفرٍ بسرعةٍ فمضى وأحضره، فلما حضر وقف بين يديه قال له: يا جعفر قد اعتراني في هذه الليلة أرقٌ فمنع عني النوم ولا أعلم ما يزيله عني قال: يا أمير المؤمنين قد قالت الحكماء: النظر إلى المرآة ودخول الحمام واستعمال الغناء يزيل الهم والفكر فقال: يا جعفر أني قد فعلت هذا كله فلم يزل عني شيئاً وأنا أقسم بآبائي الطاهرين أن لم تتسبب فيما يزيل عني ذلك لأضربن عنقك قال: يا أمير المؤمنين هل تفعل ما أشير به عليك? قال الخليفة: وما الذي تشير به علي? قال: أن تنزل بنا في زورقٍ وننحدر به في بحر الدجلة مع الماء إلى محلٍ يسمى قرن الصراط لعلنا نسمع أو ننظر ما لم ننظر فأنه قد قبل تفريج الهم بواحدٍ من ثلاثة أمور وأن يرى الإنسان ما لم يكن رآه أو يسمع ما لم يكن سمعه أو يطأ أرضاً ما لم يكن وطئها فلعل ذلك يكون سبباً في زوال القلق عنك يا أمير المؤمنين. فعند ذلك قام الرشيد من موضعه وصحبته جعفر وأخوه الفضل وأبو اسحق النديم وأبو نواس وأبو دلف ومسرور والصياد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والأربعين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة لما قام من موضعه وصحبته جعفر وباقي جماعته دخلوا حجرة الثياب ولبسوا كلهم ملابس التجار وتوجهوا إلى الدجلة ونزلوا في زورقٍ مزركشٍ بالذهب وانحدروا مع الماء حتى وصلوا إلى الموضع الذي يريدونه فسمعوا أصواتاً جاريةً تغني على العود وتنشد هذه الأبيات: قولٌ وقد حضر الـعـقـار وقد غنى على الأيك الهزار
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 908
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 909
إلى كم ذا التأني عن سرورٍ أفق ما العمر إلا مستعار
فخذها من يدي ظبيٍ غريرٍ بجفنيه فتورٌ وانكـسـار
زرعت بخده ورداً طـرياً فأثمر في السوالف جلنار
وتحسب موضع التخمـيس فيه رمادا خامداً والخدنار
يقول لي العزول تسل عنه فما عذري وقد تم العـذار
فلما سمع الخليفة هذا الصوت قال: يا جعفر ما أحسن هذا الصوت قال جعفر: يا مولانا ما طرق سمعي أطيب ولا أحسن من هذا الغناء ولكن يا سيدي أن السماع من وراء جدارٍ نصف سماعٍ فكيف بالسماع من خلف سترٍ فقال: انهض بنا يا جعفر حتى نتطفل على صاحب هذه الدار لعلنا نرى المغنية عياناً، قال جعفر: سمعاً وطاعةً فصعدوا من الكوكب واستأذنوا في الدخول وإذا بشابٍ مليح المنظر عذب الكلام فصيح اللسان خرج إليهم وقال: أهلاً وسهلاً يا سادتي المنعمين علي أدخلوا بالرحب والسعة فدخلوا وهو بين أيديهم فرأوا الدار بأربعة أوجهٍ وسقفها بالذهب وحيطانها منقوشةٌ بالأزورد وفيها إيوانٌ به سدبةٌ جميلةٌ وعليها مائة جاريةٍ كأنهن أقمار فصاح عليهن فنزلن عن أسرتهن ثم التفت رب المنزل إلى جعفر وقال: يا سيدي أنا ما أعرف منكم الجليل من الأجل بسم الله ليتفضل منكم من هو أعلى في الصدر ويجلس أخوانه كل واحد في مرتبته فجلس كل واحدٍ في منزلته وقام مسرورٌ في الخدمة بين أيديهم، ثم قال لهم صاحب المنزل عن أذنكم هل أحضر لكم شيئاً من المأكول? قالوا له: نعم. فأمر الجواري بإحضار الطعام فأقبل أربع جوارٍ مشدودات الأوساط بين أيديهن مائدةٌ وعليها من غرائب الألوان مما درج وطار وسبح في البحار من قطاً وسماني وأفراخ وحمام ومكتوب على حواشي السفرة من الأشعار ما يناسب المجلس فأكلوا على قدر كفايتهم ثم غسلوا أيديهم فقال الشاب: يا سادتي أن كان لكم حاجةٌ فأخبرونا بها حتى نتشرف بقضائها قالوا: نعم فأننا ما جئنا منزلك إلا لأجل صوت سمعناه من وراء حائط دارك فاشتهينا أن نسمعه ونعرف صاحبته فأن رأيت أن تنعم علينا بذلك كان من مكارم أخلاقك ثم نعود من حيث جئنا. فقال: مرحبا بكم. ثم التفت إلى جاريةٍ سوداءٍ وقال: أحضري سيدتك فلانةٌ. فذهبت الجارية ثم جاءت ومعها كرسي فوضعته ثم ذهبت ثانيةٍ وأتت جاريةٌ كأنها البدر في تمامه فجلست على الكرسي أمام الجارية السوداء وناولتها خرقة من أطلسٍ فأخرجت منها عوداً مرصعاً بالجواهر واليواقيت وملأوا من الذهب.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والأربعين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما أقبلت جلست على كرسي وأحرجت العود من الخريطة وإذا هو مرصع بالجوهر واليواقيت وملاويه من الذهب فشدت أوتاره لرناتٍ المزاهر وهي كما قال فيها وفي عودها الشاعر: حضنته كالأم الشفيقة بابـنـهـا في حجرها وجلت عليه ملاويه
ما حركت يدها اليمـين لـجـه إلا وأصلحت اليسـار مـدويه
ثم ضمت العود إلى صدرها وانحنت عليه انحناء الوالدة على ولدها وجست أوتاره فاستغاث كما يستغيث الصبي بأمه، ثم ضربت عليه وجعلت تنشد هذه الأبيات: جاد الزمان بمن أحب فاعـتـبـا يا صاحبي فأدر كؤوسك واشربا
من خمرةٍ ما مازحت قلب امريءٍ إلا وأصبح بالمسرة مـطـربـا
قام النسيم يحملها في كـأسـهـا أرايت بدر الثم يحمل كـوكـبـا
كم ليلةٍ سامرت فيهـا بـدرهـا من فوق دجلة قد أضاء الغيهبـا
والبدر يجنح للغـروب كـأنـمـا قد مد فوق الماء سيفاً مذهـبـا
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 909
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 910
فلما فرغت من شعرها بكت بكاءً شديداً وصاح كل من في الدار من البكاء حتى كادوا أن يهلكوا وما منهم أحدٌ إلا وغاب عن وجوده ومزق أثوابه ولطم على وجهه لحسن غنائها فقال الرشيد: أن غناء هذه الجارية يدل على أنها عاشقةٌ مفارقةٌ فقال سيدها: أنها ثاكلةٌ لأمها وأبيها فقال الرشيد: ما هذا بكاء من فقد أباه وأمه وإنما هو شجو من فقد محبوبه وطرب الرشيد من غنائها وقال لأبي اسحق: والله ما رأيت مثلها فقال أبو اسحق: يا سيدي أني لأعجب منها غاية العجب ولا أملك نفسي من الطرب وكان الرشيد مع ذلك كله ينظر إلى صاحب الدار ويتأمل في محاسنه وظرف شمائله فرأى في وجهه اصفرارا فالتفت إليه وقال: يا فتى فقال: لبيك يا سيدي فقال له: هل تعلم من نحن? قال: لا فقال له جعفر: أتحب أن نخبرك عن كل واحدٍ باسمه? فقال: نعم فقال جعفر: هذا أمير المؤمنين وابن عم سيد المرسيلين وذكر له بقية أسماء الجماعة وبعد ذلك قال الرشيد: أشتهي أن تخبرني عن هذا الاصفرار الذي في وجهك هل هو مكتسبٌ أو أصلي من حين ولادتك? قال: يا أمير المؤمنين أن حديثي غريب وأمري عجيب لو كتب بالإبر على أماق البصر لكان عبرةً لمن أعتبر.
قال: أعلمني به لعل شفاءك يكون على يدي قال: يا أمير المؤمنين أعرني سمعك، وأخلي لي ذرعك قال: هات فحدثني فقد شوقتني إلى سماعه.
فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أني رجلٌ تاجرٌ من تجار البحر، وأصلي من مدينة عمان وكان أبي تاجرا كثير المال وكان له ثلاثون مركباً تعمل في البحر أجرتها في كل عام ثلاثون ألف دينارٍ وكان رجلاً كريماً وعلمني الخط وجميع ما يحتاج إليه الشخص فلما حضرته الوفاة دعاني وأوصاني بما جرت به العادة ثم توفاه الله تعالى إلى رحمته وأبقى الله أمير المؤمنين وكان لأبي شركاءٌ يتجرون في ماله ويسافرون في البحر فاتفق في بعض الأيام أني كنت قاعداً في منزلي مع جماعةٍ من التجار إذ دخل علي غلامٌ من غلماني وقال: يا سيدي أن بالباب رجلاً يطلب الإذن في الدخول عليك فأذنب له فدخل وهو حامل على رأسه شيئاً مغطى فوضعه بين يدي وكشفه فإذا فيه فواكه بغير أوانٍ وملح وطرائف ليست في بلادنا فشكرته على ذلك وأعطيته مائة دينارٍ وانصرف شاكراً، ثم فرقت ذلك على كل من كان حاضراً من الأصحاب.
ثم سألت التجار: من أين هذا? فقالوا: أنه من البصرة وأثنوا عليه وصاروا يصفون حسن البصرة وأجمعوا على أنه ليس في البلاد أحسن من مدينة بغداد ومن أهلها وصاروا يصفون بغداد وحسن أخلاقها وأهلها وطيب هوائها وحسن تركيبها فاشتاقت نفسي إليها وتعلقت آمالي برؤيتها فقمت وبعت العقار والأملاك وبعت المراكب بمائة ألف دينارٍ وبعت العبيد والجواري وجمعت مالي فصار ألف ألف دينارٍ غير المعادن والجواهر وأكتريت مركباً وشحنتها بأموالي وسائر متاعي وسافرت بها أياماً وليالي حتى جئت إلى البصرة فأقمت بها مدةً ثم استأجرت سفينةً وأنزلت مالي فيها وسرنا منحدرين أياماً قلائل حتى وصلنا إلى بغداد فسألت أين تسكن التجار وأي موضعٍ أطيب للسكان? فقالوا: في حارة الكرح فجئت إليها واستأجرت داراً في درب يسمى درب الزعفران ونقلت جميع مالي إلى تلك الدار وأقمت بها مدةً.
ثم توجهت في بعض الأيام إلى الفرجة ومعي شيءٌ من المال وكان ذلك اليوم يوم الجمعة فأتيت إلى جامعٍ يسمى جامع المنصور تقام فيه الجمعة وبعد أن خلصنا من الصلاة خرجت مع الناس إلى موضعٍ يسمى قرن الصراط فرأيت في ذلك المكان موضعاً عالياً جميلاً وله روشنٌ مطلٌ على الشاطئ وهناك شباك فذهبت من جملة الناس إلى ذلك المكان فرأيت شيخاً جالساً وعليه ثيابٌ جميلةٌ وتفوح منه رائحةٌ طيبةٌ وقد شرح لحيته فافترقت على صدره فرقتين كأنها قضيبٌ من لجين وحوله أربع جوارٍ وخمسة غلمانٍ فقلت لشخصٍ ما اسم هذا الشيخ وما صنعته? فقال: هذا طاهر ابن العلاء وهو صاحب الفتيان وكل من دخل عنده يأكل ويشرب وينظر إلى الملاح فقلت له: والله أن لي زماناً وأنا أدور على مثل هذا.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والأربعين بعد التسعمائة
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 910
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 911
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما قال: والله أن لي زماناً وأنا أدور على مثل هذا، ثم قال: فتقدمت إليه يا أمير المؤمنين وسلمت عليه، وقلت له: يا سيدي أن لي عندك حاجة، فقال: ما حاجتك? قلت: أشتهي أن أكون ضيفك في هذه الليلة فقال: حباً وكرامةً ثم قال: يا ولدي عندي جوارٌ كثيرةٌ منهن من ليلتها بعشرة دنانيرٍ ومنهن من ليلتها بأكثر فاختر من تريد فقلت: أختار التي ليلتها بعشرة دنانيرٍ، ثم وزنت له ثلثمائة دينارٍ عن شهرٍ فسلمني لغلامٍ فأخذني ذلك الغلام وذهب بي إلى حمام القصر وخدمني خدمةً حسنةً فخرجت من الحمام وأتى بي إلى مقصورةٍ وطرق الباب فخرجت له جاريةٌ فقال له: خذي ضيفك فتلقتني بالرحب والسعة ضاحكةً مستبشرةً وأدخلتني داراً عجيبةً مزركشةً بالذهب فتأملت في تلك الجارية فرأيتها كالبدر ليلة تمامه وفي خدمتها جاريتان كأنهم كوكبان ثم أجلستني وجلست بجانبي ثم أشارت إلى الجواري فأتين بمائدةٍ فيها من أنواع اللحوم من دجاجٍ وسماني وقطاً وحمامٍ فأكلنا حتى اكتفينا وما رأيت في عمري ألذ من ذلك الطعام، فلما أكلنا رفعت تلك المائدة وأحضرت مائدة الشراب والمشموم والحلوى والفواكه وأقمت عندها شهراً على هذا الحال، فلما فرغ الشهر دخلت الحمام وجئت إلى الشيخ وقلت له: يا سيدي أريد التي ليلتها بعشرين ديناراً فقال: أرني الذهب فمضيت وأحضرت الذهب فوزنت له ستمائة دينارٍ عن شهرٍ فنادى غلاماً وقال لله: خذ سيدك فأخذني وأدخلني الحمام فملا خرجت أتى بي إلى باب مقصورةٍ وطرقه فخرجت جارية، فقال لها: خذي ضيفك فتلقتني بأحسن ملتقى وإذا حولها أربع جوارٍ ثم أمرت بإحضار الطعام فحضرت مائدة عليها من سائر الأطعمة فأكلت ولما فرغت من الأكل ورفعت المائدة فأخذت العود وغنت بهذه الأبيات: أيا نفحات المسك من أرض بابلٍ بحق غرامي أن تؤدي رسائلي
عهدت بهاتيك الأراضي منازلاً لأحبابنا أكرم بها من مـنـازل
وفيها التي ما حبها كل عاشـقٍ تغني ولم يرتد منهـا بـطـائلٍ
فأقمت عندها شهراً ثم جئت إلى الشيخ وقلت: أريد صاحبة الأربعين ديناراً فقال: أزن لي الذهب فوزنت له عن شهرٍ ألفا ومائتي دينارٍ ومكثت عندها شهراً كأنه يومٌ واحدٌ لما رأيت من حسن المنظر وحسن العشرة.
ثم جئت إلى الشيخ وكنا قد أمسينا فسمعت ضجةً عظيمةً وأصواتاً عاليةً فقلت له: ما الخبر? فقال لي الشيخ: أن هذه الليلة عندنا أشهر الليالي وجميع الخلائق يتفرجون على بعضهم فيها فهل لك أن تصعد على السطح وتتفرج على الناس فقلت: نعم وطلعت على السطح فرأيت ستارةً حسنةً ووراء الستارة محلٌ عظيمٌ وفيه سدلةً وعليها فرشٌ مليحٌ وهناك صبيةٌ تدهش الناظرين حسناً وجمالاً وقداً واعتدالاً وبجانبها غلاماً يده على عنقها وهو يقبلها فلما رأيتهما يا أمير المؤمنين لم أملك نفسي ولم أعرف أين أنا لما بهرني من حسن صورتها فلما نزلت الجارية التي أنا عندها وأخبرتها بصفتها فقالت: ما لك وما لها? فقلت: والله أنها أخذت عقلي فتبسمت وقالت: يا أبا الحسن ألك فيها غرضٌ? فقلت: أي والله فأنها تملكت قلبي ولبي فقالت: هذه ابنة طاهر بن العلاء وهي سيدتنا وكلنا جواريها أتعرف يا أبا الحسن بكم ليلتها ويومها: قلت: لا قالت: بخمسمائة دينارٍ وهي حسرةٌ في قلوب الملوك فقلت: والله لأذهبن مالي كله على هذه الجارية وبت أكابد الغرام وطول ليلي فلما أصبحت دخلت الحمام ولبست أفخر ملبوس من ملابس الملوك وجئت إلى أبيها وقلت: يا سيدي أريد التي ليلتها بخمسمائة دينارٍ فقال: زن الذهب فوزنت له عن كل شهرٍ عشرة آلاف دينارٍ فأخذها ثم قال للغلام: أعمد به إلى سيدتك فلانة فأخذني وأتى بي إلى دارٍ لم تر عيني أظرف منها على وجه الأرض.
فلما دخلت رأيت الصبية جالسةً فلما رأيتها اندهش عقلي بحسنها يا أمير المؤمنين وهي كالبدر في ليلة أربعة عشر ذات حسنٍ وجمالٍ وقدٍ واعتدالٍ وألفاظ تفضح رنات المزاهر كأنها المقصود الشاعر: قالت وقد لعب الغرام بعطفهـا في جنح ليلٍ سابـل الأحـلاك
يا هل ترى لي في دجاك مسامرٌ أو هل لهذا الكس مـن نـياك
ضربت عليه بكفها وتنـهـدت كتنهد الآسف الحزين البـاكـي
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 911
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 912
والثغر بالمسواك يظهر حسنه والأير للاكساس كالمسـواك
يا مسلمون أما تقوم أيوركـم ما فيكم أحد يغيث الشاكـي
فانفض من تحت الغلائل قائماً أيري وقال لها أتـاك أتـاك
وحللت عقد أزارها فتفزعت من أنت قلت فتىً أجاب نداك
وغدوت أرهزها بمثل ذراعها رهز اللطيف يضر بالأوراك
حتى إذا ما قمت بعـد ثـلاثةٍ قالت هناك النيك قلت هناك
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والأربعين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما حدث أمير المؤمنين بصفات الجارية وأنشد في حسنها الأبيات المتقدمة ثم أنشد هذه الأبيات: ولو أنها للمشركين تـعـرضـت لبلوائها من دون أصنامهـم ربـا
ولو تفلت في البـحـر مـالـح لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا
ولو أنها في الشرق لاحت لراهبٍ لخلي سبيل الشرق وأتبع الغربـا
وما أحسن قول الآخر: نظرت إليها نظرةً فتغـيرت دقائق فكري في بديع صفاتها
فأوحى إليهم الوهم أني أحبها فأثر ذاك الوهم في جناتهـا
فسلمت عليها فقالت: أهلاً وسهلاً ومرحباً وأخذت بيدي يا أمير المؤمنين وأجلستني إلى جانبها فمن فرط الإشتياق بكيت حماقة الفراق وأسبلت دمع العين وأنشدت هذين البيتين: أحب ليالي الهجر لا فرحاً بهـا عسى الدهر يأتي بعدها بوصال
وأكره أيام الوصـال لأنـنـي أرى كل شيءٍ معقبـاً بـزوال
ثم أنها صارت تؤانسني بلطف وأنا غريقٌ في بحر الغرام خائف في القرب ألم الفراق من فرط الوجد والإشتياق وتذكرت لوعة النوى والبين فأنشدت هذين البيتين: فكرت ساعة وصلها في هجرها فجرت مدامع مقلتي كالعنـدم
فطفقت أمسح مقلتي في جيدها من عادة الكافور إمساك الـدم
ثم أمرت بإحضار الأطعمة فأقبلت أربع جوار نهد أبكار فوضعن بين أيدينا من الأطعمة والفاكهة والحلوى والمشموم والمدام ما يصلح للملوك فأكلنا يا أمير المؤمنين وجلسنا على المدام وحولنا الرياحين في مجلسٍ لا يصلح إلا للملك ثم جاءتها يا أمير المؤمنين جاريةٌ بخريطةٍ من الابرسيم فأخذتها وأخرجت منها عوداً فوضعته في حجرها وجست أوتاره فاستغاث كما يستغيث الصبي بأمه وأنشدت هذين البيتين: لا تشرب الراح إلا من يدي رشأ تحيكه في رقة المعنى ويحيكها
أن المدامة لا يلتـذ شـاربـهـا حتى يكون نقي الخد ساقيهـا.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والأربعين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال: لما أنشدت هذين البيتين فأقمت يا أمير المؤمنين عندها على هذه الحالة مدةً من الزمان حتى نفذ جميع مالي فتذكرت وأنا جالسٌ معها مفارقتها فنزلت دموعي على خدي كالأنهار وصرت لا أعرف الليل من النهار فقالت: لأي شيءٍ تبكي? فقلت لها: يا سيدتي من حين جئت إليك وأبوك يأخذ مني في كل ليلةٍ خمسمائة دينارٍ وما بقي عندي شيءٌ من المال وقد صدق قول الشاعر حيث قال: الفقر في أوطاننا غـربةٌ والمال في الغربة أوطان
فقالت: أعلم أن أبي من عادته أنه إذا كان عنده تاجرٌ وافتقر فأنه يضيفه ثلاثة أيامٍ ثم بعد ذلك يخرجه فلا يعود إلينا أبداً ولكن أكتم سرك وأخف أمرك وأنا أعمل حيلةً في اجتماعي بك إلى ما شاء الله فأن لك في قلبي محبةً عظيمةً وأعلم أن جميع مال أبي تحت يدي وهو لا يعرف قدره فأنا أعطيك في كل يوم كيساً فيه خمسمائة دينارٍ وأنت تعطيه لأبي وتقول له: ما بقيت أعطي الدراهم إلا يوماً بيومٍ وكل ما دفعته إليه فأنه يدفعه إلى وأنا أعطيه لك وتستمر هكذا إلى أن شاء الله فشكرتها على ذلك وقبلت يدها.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 912
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 913
ثم أقمت عندها يا أمير المؤمنين على هذه الحالة مدة سنةٍ كاملةٍ فاتفق في بعض الأيام أنها ضربت جاريتها ضرباً وجيعاً فقالت لها: والله لأوجعن قلبك كما أوجعتيني ثم مضت تلك الجارية إلى أبيها وأعلمته بأمرنا من أوله إلى أخره فلما سمع طاهر بن العلاء كلام الجارية قام من وقته وساعته ودخل علي وأنا جالسٌ مع ابنته وقال لي: فلان قلت له: لبيك قال: عادتنا انه إذا كان عندنا تاجر وافتقر أننا نضيفه عندنا ثلاثة أيامٍ وأنت لك عندنا سنةً تأكل وتشرب وتفعل ما تشاء.
ثم التفت إلى غلمانه وقال: اخلعوا ثيابه ففعلوا وأعطوني ثياباً رديئةً قيمتها خمسة دراهمٍ ودفعوا إلي عشرة دراهمٍ ثم قال له: أخرج فأنا لا أضربك ولا أشتمك واذهب إلى حال سبيلك وأن أقمت في هذه البلدة كان دمك هدارٌ فخرجت يا أمير المؤمنين رغم أنفي ولا أعلم أين أذهب وحل قلبي كل همٍ في الدنيا وشغلني الوسواس وقلت في نفسي كيف أجيء في البحر بألف ألف من جملتها ثمن ثلاثين مركباً ويذهب هذا كله في دار هذا الشيخ النحس وبعد ذلك أخرج من عنده عريانا مكسور القلب? فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم أقمت في بغداد ثلاثة أيامٍ لم أذق طعاماً ولا شراباً وفي اليوم الرابع رأيت سفينةً متوجهةً إلى البصرة فنزلت واستكريت مع صاحبها إلى أن وصلت إلى البصرة فدخلت السوق وأنا في شدة الجوع فرآني رجل بقال فقام إلي وعانقني لأنه كان صاحباً لي ولأبي من قبلي وسألني عن حالي فأخبرته بجميع ما جرى لي فقال لي: والله ما فعال عاقلٍ ومع هذا الذي جرى لك فأي شيءٌ في ضميرك تريد أن تفعله? فقلت له: لا أدري ماذا أفعل فقال: أتجلس عندي وتكتب خرجي ودخلي ولك في كل يومٍ درهم زيادةً على أكلك وشربك? فأجبته وأقمت عنده يا أمير المؤمنين سنةً كاملةً أبيع واشتري إلى أن صار معي مائة دينارٍ فاستأجرت غرفةً على شاطئ البحر لعل مركباً تأتي ببضاعةٍ فاشتري بالدنانير بضاعةً وأتوجه إلى بغداد فاتفق في بعض الأيام أن المراكب جاءت وتوجهت إليها جميع التجار يشترون فرحت معهم وإذا برجلين قد خرجا من بطن المركب ونصبا لهما كرسيين وجلسا عليهما ثم أقبل التجار عليها لأجل الشراء فقال لبعض الغلمان: أحضروا البساط فأحضروه وجاء واحدٌ بخرجٍ منه جراباً وفتحه وكبه على البساط وإذا به يخطف البصر لما فيه من الجواهر واللؤلؤ والمرجان والعقيق من سائر الألوان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والأربعين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما أخبر الخليفة بقضية التجار وبالجراب وما فيه من سائر أنواع الجواهر قال: يا أمير المؤمنين ثم أن واحداً من الرجلين الجالسين على الكراسي التفت إلى التجار وقال لهم: يا معشر التجار أنا ما أبيع في يومي هذا لأني تعبان فتزايدت التجار في الثمن حتى بلغ مقداره أربعمائة دينارٍ فقال لي صاحب الجراب وكان بيني وبينه معرفةً قديمةً لماذا لم تتكلم ولم تزود مثل التجار? فقلت له: والله يا سيدي ما بقي عندي شيءٌ من الدنيا سوى مائة دينارٍ واستحيت منه ودمعت عيناي فنظر إلي وقد عسر عليه حالي، ثم قال للتجار: أشهدوا على أني بعت جميع ما في الجراب من أنواع الجواهر والمعادن لهذا الرجل بمائة دينار وأنا أعرف أنه يساوي كذا وكذا ألف دينارٍ وهو هديةٌ مني إليه فأعطاني الخرج والجراب والبساط وجميع ما عليه من الجواهر فشكرته على ذلك وجميع من حضر من التجار أثنوا عليه ثم أخذت ذلك ومضيت به إلى سوق الجواهر وقعدت أبيع واشتري وكان من جملة هذه المعادن قرص تعويذ صنعه المعلمين وزنته نصف رطلٍ وكان أحمر شديد الحمرة وعليه أسطر مثل دبيب النمل من الجانبين ولم أعرف منفعته فبعت واشتريت مدة سنةٍ كاملةٍ ثم أخذت قرص التعويذ وقلت: هذا له عندي مدة لا أعرفه ولا أعرف منفعته فدفعته إلى الدلال فأخذه ودرا به ثم عاد وقال: ما دفع واحدٌ من التجار سوى عشرة دراهمٍ فقلت له: ما أبيعه بهذا القدر فرماه في وجهي وانصرف.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 913
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 914
فعرضته للبيع يوماً أخر فلبغ ثمنه خمسة عشر درهماً فأخذته من الدلال مغضباً ورميته عندي فبينما أنا جالس يوماً إذ أقبل علي رجل فسلم علي وقال لي: عن أذنك هل أقلب ما عندك من البضائع? قلت: نعم وأنا يا أمير المؤمنين مغتاظٌ من كساد قرص التعويذ فقلب الرجل البضاعة ولم يأخذ منها سوى قرص التعويذ فلما رآه يا أمير المؤمنين قبل يده وقال: الحمد لله ثم قال: يا سيدي أتبيع هذا? فازداد غيظي وقلت له: نعم فقال لي: كم ثمنه? فقلت له: كم تدفع فيه أنت? قال عشرين ديناراً، فتوهمت أنه يستهزيء بي فقلت: اذهب إلى حال سبيلك فقال لي هو: أبخمسين ديناراً فلم أخاطبه فقال: ألف دينارٍ هذا كله يا أمير المؤمنين وأنا ساكتٌ ولم أجبه وهو يضحك من سكوتي ويقول: لأي شيءٍ لم ترد علي? فقلت له: اذهب إلى حال سبيلك وأردت أن أخاصمه وهو يزيد ألفاً بعد ألفٍ ولم أرد عليه حتى قال: أتبيعه بعشرين ألف دينارٍ? وأنا أظن أنه يستهزيء بي فاجتمع علينا الناس كلٌ منهم يقول بعد وأن لم يشتر فنحن الكل عليه ونضربه ونخرجه من البلد فقلت له: هل أنت تشتري أو تستهزيء? قلت له: أبيع قال: هو بثلاثين ألف دينارٍ وخذها وأمضي البيع وأنا أخبرك بفائدته ونفعه فقلت: بعتك فقال: الله على ما تقول وكيل.
ثم أخرج الذهب وأقبضني إياه وأخذ قرص التعويذ ووضعه في جيبه ثم قال لي: هل رضيت? قلت: نعم فقال أشهدوا عليه أنه أمضى البيع وقبض الثمن ثلاثين ألف دينارٍ ثم إنه التفت إلى وقال: يا مسكين والله لو أخرت البيع لزدناك إلى مائة ألف دينارٍ بل إلى مائة ألف ألف دينارٍ، فلما سمعت يا أمير المؤمنين هذا الكلام نفر الدم من وجهي وعلا عليه هذا الاصفرار الذي أنت تنظره من ذلك اليوم ثم قلت له: أخبرني ما سبب ذلك وما نفع هذا القرص? فقال: اعلم أن ملك الهند له بنت لم ير أحسن منها وبها داء الصداع فأحضر الملك أرباب الأقلام وأهل العلوم والكهان فلم يرفعوا عنها ذلك فقلت له وكنت حاضراً بالمجلس: أيها الملك أنا أعرف رجلاً يسمى سعد الله البابلي ما على وجه الأرض أعرف منه بهذه الأمور فإن رأيت أن ترسلني إليه فأفعل فقال: اذهب إليه فقلت له: أحضر إلي قطعةً كبيرةً من العقيق ومعها ألف دينارٍ وهديةٍ فأخذت ذلك وتوجهت إلى بلاد بابلٍ فسألت عن الشيخ فدلوني عليه ودفعت له المائة ألف دينارٍ والهدية فأخذ ذلك مني ثم أخذ قطعة العقيق وأحضر حكاكاً فعملها هذا التعويذ ومكث الشيخ سبعة أشهرٍ يرصد النجم حتى اختار وقتاً لكتابته وكتب عليه هذه الطلاسم التي تنظرها ثم جئت به إلى الملك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخمسين بعد التسعمائة
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 914
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 915
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لأمير المؤمنين: إن الرجل قال لي: أخذت هذا التعويذ وجلت به إلى الملك فلما وضعه على ابنته برنت من ساعتها وكانت مربوطةً في أربع سلاسلٍ وكل ليلةٍ تبيت عندها جاريةٌ فتصبح مذبوحةً فمن حين وضع عليها هذا التعويذ برنت لوقتها ففرح الملك فرحاً شديداً وخلع علي وتصدق بمالٍ كثيرٍ ثم وضعه في عقدها فاتفق أنها نزلت يوماً في مركب هي وجواريها تتنزه في البحر فمدت جاريةٌ يدها إليها لتلاعبها فانقطع العقد وسقط في البحر فعاد من ذلك الوقت العارض لابنة الملك فحصل ما حصل للملك من الحزن فأعطاني مالاً كثيراً وقال لي: اذهب إلى الشيخ ليعمل لها تعويذةً عوضاً عنها فسافرت إليه فوجدته قد مات فرجعت إلى الملك وأخبرته فبعثني أنا وعشرة أنفسٍ نطوف في البلاد لعلنا نجد لها دواء فأوقعني الله به عندك فأخذه مني يا أمير المؤمنين وانصرف فكان ذلك الأمر سبباً للاصفرار الذي في وجهي ثم أني توجهت إلى بغداد ومعي جميع مالي وسكنت في الدار التي كنت فيها فلما أصبح الصباح لبست ثيابي وجئت إلى بيت طاهر بن العلاء لعلي أرى من أحبها فإن حبها لم يزل يتزايد في قلبي فلما وصلت إلى داره رأيت الشباك قد انهدم فسألت غلاماً وقلت له: ما فعل الله بالشيخ? فقال: يا أخي أنه قدم عليه في سنة من السنين رجلٌ تاجرٌ يقال له أبو الحسن العماني فأقام مع ابنته مدةً من الزمان ثم بعد أن ذهب ماله أخرجه الشيخ من عنده مكسور الخاطر وكانت الصبية تحبه حباً شديداً فلما فارقها مرضت مرضاً شديداً حتى بلغت الموت وعرف أباها بذلك فأرسل خلفه في البلاد وقد ضمن لمن يأتي به مائة ألف دينارٍ فلم يره أحد ولم يقع له على أثرٍ وهي الآن مشرفة على الموت قلت: وكيف حال أبيها? قال: باع الجواري من عظم ما أصابه فقلت له: هل أدلك على أبي الحسن العماني? فقال: وبالله عليك يا أخي أن تدلني عليه فقلت له: اذهب إلى أبيها وقل له: لي البشارة عندك فإن أبا الحسن العماني واقفٌ على الباب.
فذهب الرجل يهرول كأنه بغلٌ انطلق من طاحونٍ ثم غاب ساعةٍ وجاء وصحبته الشيخ فلما رأني رجع إلى داره وأعطى الرجل مائة ألف دينارٍ فأخذها وانصرف وهو يدعو لي ثم أقبل الشيخ وعانقني وبكى وقال: يا سيدي أين كنت في هذه الغيبة هلكت ابنتي من أجل فراقك فأدخل معي إلى المنزل فلما دخلت سجد شكراً لله تعالى وقال الحمد لله الذي جمعنا بك ثم دخل لابنته وقال لها شفاك الله من هذا المرض فقالت يا أبت ما أبرا من مرضي إلا إذا نظرت وجه أبي الحسن فقال إذا أكلت أكله ودخلت الحمام جمعت بينكما فلما سمعت كلامه قالت أصحيحٌ ما تقول قال لها والله العظيم أن الذي قلته صحيحٌ فقالت والله إن نظرت وجهاً ما أحتاج إلى أكلٍ فقال لغلامه: أحضر سيدك فدخلت فلما نظرت إلى أمير المؤمنين وقعت مغشياً عليها فلما أفاقت أنشدت هذا البيت: وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
ثم استوت جالسةً وقالت: يا سيدي ما كنت أظن أني أرى وجهك إلا أن كان مناماً، ثم أنها عانقتني وبكت وقالت يا أبا الحسن الآن آكل وأشرب فأحضروا الطعام والشراب، ثم صرت عندهم يا أمير المؤمنين مدةً من الزمان وعادت كما كانت عليه من الجمال، ثم أن أباها استدعى بالقاضي والشهود وكتب كتابها علي وعمل وليمةً عظيمةً وهي زوجتي إلى الآن.
ثم أن ذلك الفتى قام من عند الخليفة ورجع إليه بغلامٍ بديع الجمال بقدٍ ذي رشاقةٍ واعتدالٍ وقال له قبل الأرض بين يدي أمير المؤمنين فقبل الأرض بين يدي الخليفة فتعجب الخليفة من حسنه وسبح خالقه، ثم أن الرشيد انصرف هو وجماعته وقال يا جعفر مما هذا إلا شيءٌ عجيبٌ ما رأيت ولا سمعت بأغرب منه. فلما جلس الرشيد في دار الخلافة قال: يا مسرور قال: لبيك يا سيدي قال أجمع في هذا الإيوان خراج البصرة وخراج بغداد وخراج خراسان فجمعه فصار مالاً عظيماً لا يحصى عدده إلا الله تعالى.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 915
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 916
ثم قال الخليفة: يا جعفر قال لبيك قال أحضر لي أبا الحسن قال سمعاً وطاعةً ثم أحضره فلما حضر قبل الأرض بين يدي الخليفة وهو خائفٌ أن يكون طلبه بسبب خطأ وقع منه وهو عنده بمنزله فقال الرشيد: يا عماني قال له لبيك يا أمير المؤمنين خلد الله نعمه عليك، فقال له اكشف هذه الستارة، وكان الخليفة أمرهم أن يضعوا مال الأقاليم ويسلبوا عليه الستارة، فلما كشف العماني الستارة عن الإيوان اندهش عقله من كثرة المال فقال الخليفة يا أبا الحسن أهذا المال أكثر أم الذي فاتك من قرص التعويذ فقال له بل هذا يا أمير المؤمنين أكثر بأضعافٍ كثيرة.
قال الرشيد: أشهدوا يا من حضر أني وهبت هذا المال لهذا الشاب، فقبل الأرض واستحى وبكى من شدة الفرح بين يدي الرشيد، فلما بكى جرى الدمع من عينيه على خده فرجع الدم إلى محله فصار وجهه كالبدر ليلة تمامه، فقال الخليفة لا آله إلا الله سبحان من يغير حالاً بعد حال وهو باقٍ لا يتغير، ثم أتى بمرآة وأراه وجهه فيها فلما رآه سجد شكراً لله تعالى، ثم أمر الخليفة يحمل إليه المال وسأله أنه لا ينقطع عنه لأجل المنادمة فصار يتردد إليه إلى أن توفى الخليفة إلى رحمة الله تعالى، فسبحان الحي الذي لا يموت ذي الملك والملكوت.
حكاية إبراهيم بن الخصيب
مع جميلة بنت أبي الليث عامل البصرة
ومما يحكى أيضاً أيها الملك السعيد أن الخصيب صاحب مصر كان له ولدٌ ولم يكن في زمانه أحسن منه وكان من خوفه عليه لا يمكنه من الخروج إلا لصلاة الجمعة، فمر وهو خارجٌ من صلاة الجمعة على رجلٌ كبيرٌ وعنده كتب كثيرة فنزل عن فرسه وقعد عنده وقلب الكتب وتأملها فرأى فيها صورة امرأةٍ تكاد أن تنطق ولم ير أحسن منها على وجه الأرض فسلبت عقله وأذهلت لبه.
فقال له: يا شيخ بغني هذه الصورة، فقبل الأرض بين يديه ثم قال له يا سيدي بغير ثمن فدفع له مائة دينارٍ وأخذ الكتاب الذي به الصورة وصار ينظر إليها ويبكي ليله ونهاره وامتنع عن الأكل والشراب والمنام، فقال في نفسه، لو سألت الكتبي عن صانع هذه الصورة من هو ربما أخبرني فإن كانت صاحبتها في الحياة توصلت إليها وإن كانت صورة مطلقةٍ تركت التولع بها ولا أعذب نفسي بشيءٍ لا حقيقة له.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والخمسين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما قال في نفسه لو سألت الكتبي عن هذه الصورة ربما أخبرني فإن كانت صورة مطلقة تركت التولع بها لا أعذب نفسي بشيءٍ لا حقيقة له. فلما كان يوم الجمعة مر على الكتبي فنهض إليه قائماً فقال له يا عم أخبرني من صنع هذه الصورة قال: يا سيدي صنعها رجل من أهل بغداد يقال له أبو القاسم الصندلاني في حارةٍ تسمى حارة الكرح ولا أعلم من هي.
فقام الغلام من عنده ولم يعلم أحداً من أهل مملكته، ثم صلى الجمعة وعاد إلى البيت فتناول جراباً وملأه من الجواهر والذهب وقيمة الجواهر ثمانون ألف دينارٍ، ثم صبر إلى الصباح وخرج ولم يعلم به أحدٌ ولحق قافلةً فرأى بدوياً فقال له يا عم كم بيني وبين بغداد فقال له يا ولدي أين أنت وأين بغداد إن بينك وبينها مسيرة شهرين فقال له يا عم إن أوصلتني إلى بغداد أعطيك مائة دينارٍ وهذه الفرس التي تحتي وقيمتها ألف دينارٍ.
فقال له البدوي الله على ما تقول وكيل ولكن لا ننزل في هذه الليلة إلا عندي، فأجابه إلى قوله وبات عنده، فلما لاح الفجر رافقه البدوي وسار به سريعاً في طريقٍ قريبٍ طمعاً في تلك الفرس التي وعده بها، وما زالا سائرين حتى وصلا إلى حيطان بغداد فقال له البدوي الحمد لله على السلامة يا سيدي هذه بغداد، ففرح الغلام فرحاً شديداً ونزل عن الفرس وأعطاها للبدوي هي والمائة دينار.
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 916
ألف ليلة وليلة مؤلف ألف ليلة وليلة الصفحة : 917
ثم تناول الجراب ومضى يسائل عن حارة الكرح وعن محل التجار فساقه القدر إلى دربٍ فيه خمسه عشر ججر تقاتل وفي صدر الدار بابٌ بمصراعين له حلقة من فضة وفي الباب مصطبتان من الرخام مفروشتان بأحسن الفرش وفي أحدهما رجلٌ جالسٌ وهو مهابٌ حسن الصورة وعليه ثيابٌ فاخرةٌ وبين يديه خمس مماليك كأنهم أقمارٌ، فلما رأى الغلام ذلك عرف العلامة التي ذكرها له الكتبي فسلم على الرجل فرد عليه السلام ورحب به وأجلسه وسأله عن حاله فقال له الغلام: أنا رجلٌ غريبٌ وأريد من إحسانك أن تنظر لي في هذا الدرب داراً لأسكن فيها.
فصاح الرجل وقال: يا غزالة، فخرجت إليه جارية وقالت لبيك يا سيدي فقال: خذي معك بعض خدم واذهبوا إلى حجرة ونظفوها وافرشوها وحطوا فيها جميع ما يحتاج من آنية وغيرها لأجل هذا الشاب الحسن الصورة، فخرجت الجارية وفعلت ما أمرها به، ثم أخذه الشيخ وأراه الدار فقال له الغلام يا سيدي كم أجرة هذا الدار? فقال له يا جميل أنا ما آخذ منك أجرةً ما دمت هنا، فشكره على ذلك.
ثم أن الشيخ نادى جاريةً ثانيةً فخرجت إليه جاريةٌ كأنها الشمس فقال لها هات الشطرنج فأتت له، ففرش المملوك الرقعة وقال الشيخ للغلام: أتلعب معي قال نعم فلعب معه مراتٍ والغلام يغلبه، فقال أحسنت يا غلام لقد كملت صفاتك والله ما في بغداد من يغلبني وقد غلبتني أنت، ثم بعد أن هيأوا الدار بالفراش وسائر ما يحتاج إليه وسلمه المفاتيح وقال يا سيدي إلا تدخل منزلي وتأكل عيشي فنتشرف بك فأجابه الغلام إلى ذلك ومشى معه فلما وصلا إلى الدار حسنةً جميلةً مزركشةً بالذهب وفيها من جميع التصاوير ومن أنواع الفرش والأمتعة ما يعجز عن شرحه اللسان، ثم صار يحييه وأمر بإحضار الطعام فأتوا بمائدة من شغل صنعاء اليمن فوضعت وأتوا بالطعام ألواناً غريبةً لا يوجد أفخر منها ولا ألذ.
فأكل الغلام حتى اكتفى ثم غسل يديه، وصار الغلام ينظر إلى الدار والفرش، ثم التفت إلى الجراب الذي كان معه فلم يره فقال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أكلت لقمةً تساوي درهماً أو درهمين فذهب مني جراب فيه ثلاثون ألف دينارٍ ولكنه استعان بالله ثم سكت ولم يقدر أن يتكلم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والخمسين بعد التسعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام لما رأى الجراب مفقودٌ حصل له غمٌ كبيرٌ فسكت ولم يقدر أن يتكلم، فقدم الشيخ الشطرنج وقال للغلام: هل تلعب معي? فقال: نعم فغلبه الشيخ فقال الغلام: أحسنت: ثم ترك اللعب وقام فقال له: ما لك يا غلام? فقال: أريد الجراب، فقام وأتى به وقال: ها هو يا سيدي هل ترجع إلى اللعب معي? قال: نعم فلعب معه فغلبه الغلام، فقال الرجل: لما اشتغل فكرك بالجراب غلبتك فلما جئت به إليك غلبتني.
ثم قال له: يا ولدي أخبرني من أي البلاد أنت? فقال: من مصر، فقال له: وما سبب مجيئك إلى بغداد? فأخرج له الصورة وقال: يا عم إني ابن الخصيب صاحب مصر وقد رأيت هذه الصورة عند رجل كتبي فسلبت عقلي فسألت عن صانعها فقيل لي: إن صانعها رجل من بغداد بحارة الكرح يقال له أبو القاسم الصندلاني بدرب الزعفران فأخذت معي شيئاً من المال وجئت وحدي ولم يعلم بحالي أحدٌ وأريد من تمام إحسانك أن تدلني عليه حتى أسأله عن سبب تصويره لهذه والصورة من هي ومهما أراده مني فإني أعطيه إياه فقال: والله يا ابني إني أنا أبو القاسم الصندلاني وهذا أمرٌ عجيب كيف ساقتك المقادير إلي.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)